الحرية واستئناس الرغبة – ديمتري أڤييرينوس

الحرية و”استئناس” الرغبة

ديمتري أڤييرينوس 

ديمتري أڤييرينوس

 

من التصورات المغلوطة السائدة في زماننا، المولِّدة لمشكلات هائلةِ العواقب، فكرةُ أن الحرية تتوقف على الشروط الخارجية. يخالف هذا التصور منظور الحكمة القديمة، كما تمثلت في تعليم المعلم الناصري الذي أشار إلى أن معرفة الحقيقة هي التي تحرِّر (“تعرفون الحق، والحق يحرركم” – إنجيل يوحنا 8: 32)، وكذلك في حكمة الهند، الأقدم، التي شجعت جميع الناس – حتى غير المثقفين وغير المتعلِّمين منهم – على تقصِّي طبيعة كلٍّ من العبودية (بندها bandha) والانعتاق (مكشا moksha) وعلى الاستفسار عما إذا كان منبع الحرية يوجد في الذات أو خارج الذات. إن هذا الاكتشاف جوهري للبشرية، لكنه ليس مكسبًا من مكاسبها… لماذا؟

لأن الناس، حين يتخيلون أن مصدر الحرية يكمن في الشروط الخارجية، تراهم يتسابقون للفوز بهذه الحرية وللتمتع بها، عبر تكديس الماديات على سبيل المثال. صحيح أننا – إذا كنَّا ممَّن يفتشون عن معنى لوجودهم – سرعان ما نستبعد هذا الموقف بوصفه “ماديًّا” بحتًا، فترانا كالببغاوات نكرر أن “السعادة لا تُشترى بالمال”، لكننا قلما نحلِّل دوافع صاحب المال الذي يظن أنه يستطيع، بماله، أن يشتري ما يشاء: الجاه، السفر، النفوذ، وأشياء أخرى كثيرة، بما فيها الناس الذين يصيرون بنظره مجرد أشياء/وسائل لتحقيق رغباته. هذه الفكرة راسخة لدى أصحاب المال ولدى الطامعين إلى اكتناز المزيد منه (يقول المثل: “المال يجر المال”)، لكننا نعلم، بالخبرة، أن المال لا يحرر أحدًا من الجزع أو من نكبات الدهر، ولا من الخوف من التغيير أو الموت؛ صحيح أن المال قد يتيح القيام ببعض الأمور في لحظات بعينها، لكنه لا يشتري الأمان، ولا السعادة، ولا راحة البال، ولا الحب.

في موازاة هذه الأوهام الرائجة حول المال، هناك الاعتقاد بأن السلطان والنفوذ مرادفان للحرية، لأننا بهما نستطيع التسلط على الآخرين أو رمي أحدهم في السجن أو التلذذ بفكرة أننا نستطيع أن نفعل ما يحلو لنا من غير رقيب ولا حسيب. قبل انحطاط الحضارة في العالم كان العقلاء ينصحون للناس بالتفكر دومًا في ماهية الحرية الحقيقية وبطرح وهم أن الملذات أو الأملاك أو الجاه أو النفوذ كفيلة بالحصول عليها؛ لكن انهيار الحضارة بدأ فعلاً عندما لم يعد البشر مهتمين حقًّا باكتشاف ماهية الحرية، بل اكتفوا باقتباس ما يقوله الآخرون عنها وبمحاولة الوصول إليها عبر طرق “مختصرة”!

الحرية الحقيقية حالة وجود ينعدم فيها الخوف، لا اتكال فيها على شيء ولا على أحد بتاتًا، لا يعوز فيها المرءَ شيءٌ، فتراه، بالتالي، لا يطلب شيئًا. في الـبهگڤدگيتا يسأل المحارب أرجونا  عمَّن هو “الراسخ في الحكمة صاحب الذهن المستقر” – “الذهن المستقر” (ستهتا-پرجنا sthita-prajñā) بمعنى الذهن الخالي من النزاع تمامًا، غير المتأثر بالشروط الخارجية ولا بالضغوط النفسية للمجتمع –، فيجيبه كرشنا، قائد مركبته، بأن مثل هذا الحكيم لا يتأثر بشيء لأن ذهنه حرٌّ من كل رغبة (2: 54-55). ذلكم هو لبُّ المسألة: حين تُستأنَس الرغبةُ الرعناء، لا في الأشياء المادية وحسب، بل وفي الأمور “الروحية” المزعومة أيضًا، وبعبارة أخرى، حين تكف الرغبة عن الاستبداد بحياتنا، تتحقق الحرية الداخلية من تلقاء ذاتها، وذلك لأنها حالة وجودنا الطبيعي الأصلي قبل أن يحتجب بغيوم الرغبات المتناقضة.

فهل يتعين علينا أن نتحرر من الرغبة حتى في الأمور “الروحية”؟ جزمًا نعم، لأن الرغبة الرعناء أشبه بالحجاب، كما أشرنا؛ إنها تبلبل الإدراك، فتعيق اختبار ما هو روحي حقًّا. الرغبة في الروحانيات، حين تتأسس على تصورات مغلوطة، تؤدي لا محالة إلى طريق مسدود. في كتاب نور على الدرب الذي أُمْلِيَ على ميبل كولنز مقطع مجازي مؤثر حول تفتُّح زهرة الإدراك بعد خوض معارك عديدة والانتصار فيها؛ إنه تفتُّح النفس التي تدرك، فجأة، طبيعتها الأصلية. ولكن، هل بمستطاعنا أن نحيا من غير أي رغبة بتاتًا؟ قطعًا لا، لأن الرغبة هي الدافع الأصلي إلى الحياة، وهي التي تعرِّف بطبيعة الإنسان، كما يؤكد شوپنهاور؛ إنما من الممكن استئناس الرغبة – “أنْسَنَتها”، إذا جاز التعبير – بتفحُّص مضامين ذهننا، باكتشاف وَقْعها على حياتنا، وبالكف عن إمداد الرغبة بالوقود الناتج عن تماس الذهن الجشع مع موضوعات الحس (البوذا).

يُعتبَر الشعور الديني العميق حقيقيًّا عند التخلي عن الرغبة الشخصية، أي حين لا يطلب المتديِّن شيئًا لقاء شعوره؛ إن ذهنه يرغب عن جميع الأشياء الملذوذة، وبذلك يستودع الحياة ثقته المطلقة. عندئذٍ فإن التخلي يتضمن نهاية الرغبة في إحراز النجاح، في التفوق على الآخرين، في إنجاز تغييرات، إلخ. وهذه الحالة، خلافًا لما يُظن، ليست حالة سلبية، ليست العزوف عن الرغبة في الحياة، بل حالة تيقُّظ وانتباه دائمين. وهذا، بالطبع، لا يَفترض أن نتخلى عن التقيد العفوي بحسِّ الاستقامة ولا عن ضرورة التزام قيم نبيلة عالية، بل يعني بالأحرى أننا لا نطلب شيئًا لأنفسنا: لا الرضا ولا النجاح ولا… إلخ.

حين تنفتح “أبواب الإدراك” the doors of perception (وليم بليك) فإن النور الذي نختبر وجوده في داخلنا يكشف لنا أنه ليس ثمة شيء علينا أن نحقِّقه بأنفسنا لأنفسنا: كل شيء جزء لا يتجزأ من الكل، وفكرة أن “عليَّ أن أنجز” أو “عليَّ أن أحقق، وعندما يتم لي ذلك (في مستقبل افتراضي) سوف أساهم في نجاة العالم” تتلاشى عند ذاك من الذهن من تلقاء ذاتها.

حسبنا أن نتفكر قليلاً لكي ندرك أن ما من شيء حقيقي يستطيع شخص أن ينجزه بمفرده؛ فنحن جميعًا جزء لا يتجزأ من حركة كلِّية غير منقطعة، والحاجات التي يجب علينا تأمينها تتيسر لنا وحدها حين تُلبَّى الشروط المطلوبة. حتى تبقى مياه النهر صافية لا بدَّ لكل قطرة من أن تكون نقية، لكن القطرة الواحدة ليس بمقدورها أن تروي الأرض ولا أن تزوِّدها بالخصوبة؛ بالمثل، فإن مهمة كلٍّ من القطرات الصغيرة التي تؤلف تيار التطور الكوني هي جزء من مهمة كلية ليس للنجاح الشخصي من قيمة فيها أو أهمية تُذكَر.

حال الحرية الداخلية حال سعادة حقيقية ومنبع لعلاقات مُحِبَّة مع الطبيعة، أمِّنا جميعًا، ومع البشر، إخواننا في الإنسانية. وفي حياتنا اليومية، علينا أن نتعلم أن النزاعات التي يسبِّبها القلق أو الخوف – على مستقبلنا، على صحتنا، على ما سيكون عليه أولادنا أو أحفادنا أو ممتلكاتنا، إلخ – تحُول دون تحقيق الحرية. علينا أن نعي بأننا لا نستطيع أن نفعل شيئًا في سبيل هذا المستقبل – الأمر الذي لا يحُول، بالطبع، بيننا وبين إرسال أبنائنا إلى مدرسة جيدة أو كتابة وصيتنا! فالمقصود هو وجوب وعينا بأن حرصنا على رؤية الأشياء تجري على هوانا أو بحسب تصوراتنا المسبقة لا جدوى منه، بل من شأنه أن يعكر صفو أذهاننا. (القلق، على سبيل المثال، لن يجعل الطائرة تصل في موعدها المقرر ولن يمنع وقوع حادث سير إذا كانت أسبابه قائمة.) ومنه، يقال إن الجزع والقلق والخوف عقبات على درب التحقق الروحي. لعلنا لا نجرح الآخرين حين ينتابنا قلقٌ على الأمور الصغيرة، لكننا إذا رصدنا نفوسنا رصدًا موضوعيًّا، تبيَّن لنا أن الجزع والقلق والرغبة في رؤية الأشياء تجري وفقًا لأهوائنا وتمنياتنا تستعبدنا وتحرمنا من الحرية. وفي الحاصل، ليس بإمكاننا أن نفعل إلا ما بوسعنا وحسب. فإذا رسخ هذا الموقف في نظرتنا إلى أمور الحياة ككل، هدأ بالنا واستتبَّ السلام في قلوبنا.

الحياة أشبه بالكاليدوسكوپ. إننا، بأفعالنا ومشاعرنا وأفكارنا، نولِّد روابط كَرْمية (من كرما karma، قانون السببيَّة الكوني)، وترانا، تقمُّصًا بعد تقمُّص، جيلاً بعد جيل، نعاود عقد الصلات مع الناس الذين نعرفهم. لكننا إذا سعينا في الاقتصار على نمط بعينه من العلاقات فإن كاليدوسكوپ الحياة لن يتيح لنا ذلك: فحتى حين نحرك الكاليدوسكوپ تحريكًا طفيفًا وحسب، تتغير الصورة التي نراها، وإنْ تكن القطع المتحركة هي هي لم تتغير – وكذا هي الحياة: فالتعلق والرغبة في استمرار علاقات بعينها على ما هي عليه يشوِّشان الذهن ليس إلا؛ أما الحرية الداخلية فتعني قبول التغيير. فالحرية لا تأتي من هذا أو من ذاك أو من ذلك؛ الحرية الحقيقية حالة تستعيد فيها الرغبة براءتها الأصلية. “المعركة” التي يذكرها نور على الدرب عبارة عن استئناس للرغبة، أيًّا كان المظهر الذي تتخذه، بالرصد الدؤوب والتعلم المستمر والفهم العميق؛ وكل جولة من جولات هذه “المعركة” نتصالح فيها مع الرغبة – نستأنسها – تيسِّر نموَّ النفس وتفتُّحها عن ممكنات لا تنتهي.

فلنعد إلى ما قلناه في بداية هذا المقال: الحرية تُكتشَف ولا تُكتسَب!