نظرات في مفهوم الثقافة – ديمتري أڤييرينوس

نظرات في مفهوم الثقافة*

ديمتري أڤييرينوس**

يحظى مصطلح ثقافة ومشتقاته باهتمام متزايد في عصرنا. فكثيرًا ما نسمع في وسائل الإعلام كلمات من نحو: "المثقفون"، "إشعاع ثقافي"، "مثقف طليعي"، "دور المثقف الثوري"، "ثقافة شعبية"، "ثقافة عالِمة"، إلخ؛ وكذلك شعارات من نحو: "الثقافة هي الحاجة العليا للمجتمع"، "الثقافة غذاء العقل"، إلخ. فهل تساءلنا جديًّا عن معنى هذه العبارات؟!

كلمة "ثقافة"، بالعربية، هي المصدر من فعل ثَقِفَ أو ثَقُفَ، وهي تحتمل معنيين: إما الحذق والخفة والظرف في الفهم والحديث، وإما تهذيب الشخصية الإنسانية وتأديبها والمضي بها إلى أعلى درجات الكمال – والمعنى الثاني، بالطبع، هو الذي اخترت أن يكون موضوع حديثي اليوم.

أما كلمة culture، بالفرنسية أو بالإنكليزية، فهي مشتقة من المصدر اللاتيني cultura، وتعني "فن الزراعة والعناية بالنباتات". (لعل هذا الأصل اللساني للكلمة يشير إلى أن بدايات الثقافة مرتبطة باستقرار الإنسان البدائي في قرى ونشوء المجتمع الزراعي.) كلنا يعلم أنه توجد على كرتنا الأرضية أعداد لا حصر لها من النباتات التي تنمو، من دون معونة الإنسان، وفقًا لسيرورات طبيعية؛ وكلنا يعلم أيضًا أنه تجري في الطبيعة سيرورات خَلْق من أبدع ما يكون: أشجار باسقة، زهور رقيقة، نباتات متسلقة، نباتات زاحفة، ليس لجمالها الخارق أي دخل بالجهود التي يبذلها الإنسان.

أما الزراعة، في مقابل نمو النباتات الطبيعي، فتعني تكريس مجهود أو اهتمام لتطور النبتة المزروعة. لذا يتضمن عمل المُزارع – أي مُزارع – القيام بكل ما من شأنه أن يشجع عملية التطور تلك، بما يرافقها من إزهار وإثمار وإيناع، ويكفل الحفاظ على النبتة في صحة طيبة. وتتضمن الزراعة عددًا من العمليات: علينا، أولاً، أن نحرث الأرض، ثم أن نغذيها بأن نُمِدَّها بالعناصر الضرورية؛ ثم علينا أن نرويها، كما علينا أن نقتلع منها الأعشاب الضارة اقتلاعًا مستمرًّا. والمجهود الذي نقوم به يجب ألا يكون عشوائيًّا أو مزاجيًّا، بل منظم ودقيق. لكن هذه العمليات جميعًا، من حرث وتسميد وري إلخ، لن تجدي نفعًا إذا خَلَتِ التربة من بذرة أو جذر، من بصلة أو غرسة، أي إذا لم تتضمن عنصرًا من عناصر الطبيعة، أولاً وآخرًا.

الإنسان، إذن، عاجز عن خلق بذرة أو تصنيع غرسة. بوسعه طبعًا أن يُصالِب بين أجناس مختلفة من النوع نفسه، فيحصل بالتلقيح المتصالب على ثمار مختلفة في شكلها ومذاقها وخصائصها؛ أو أن يُجري تطعيمًا، كأنْ يغرس طُعمًا من شجرة مثمرة في شجرة مثمرة أخرى (الحمضيات مثلاً)، وأن يقوم بعمليات أخرى كثيرة. لكن جميع هذه التجارب تحتاج إلى مواد من إنتاج ذلك المعمل المعقد الشاسع الذي ندعوه الطبيعة.

لذا، مهما بدا لنا عمل المُزارع أصيلاً وعبقريًّا، فهو لا يفعل أكثر من مدِّ يد العون إلى سيرورة طبيعية. للنبتة طبيعتها الخاصة: فهي تنمو بمقتضى قوانين محددة، بحسب سيرورة متضمنة في برنامجها الجيني: لا يمكن لنا أن نحصل على بلوطة من حبة قمح، ولا على تينة من بذرة كرز؛ إذ إن كلاً منهما ينمو بحسب السيرورة التي تنطوي عليها البذرة. انظروا إلى بذرة التين ما أصغرها! إنها تكاد ألا تُرى بالعين المجردة، لكنها تحوي إمكانية أن تصبح شجرة ضخمة تستظل بها جحافل من الناس. هذه القدرة الكامنة توجد في كل بذرة، ويقتصر دور المُزارع على مساعدة هذه القدرة الطبيعية على التفتح، وذلك بدراستها ومحاولة تفهُّم سيرورات عملها.

كثيرًا ما تدور نقاشات – عقيمة في الغالب! – حول الأهمية النسبية لكلٍّ من "الطبع" و"التطبع": هناك مَن ينادي بترك الطبيعة تعمل بمطلق الحرية؛ وهناك أيضًا مَن يعتقد بضرورة تطبيق قوى خارجية "تطبِّع" القوى الداخلية وتحل محلها. الزراعة تعني إمكانية وجود قوى خارجية يمكن لها أن تلعب دورًا في عملية إفصاح القوى والعوامل الكامنة عن ذاتها (فلو لم يكن الأمر كذلك لما احتاج المُزارع إلى بذل أي مجهود)؛ لكن كونَ بعض العمليات يتضمن وجود عامل مساعد يشير إلى أن عوامل البيئة والقوى الخارجية تأتلف مع الإمكانية الداخلية؛ وعلى هذا الائتلاف يتوقف نمو النبتة وتفتُّحها. أما التدخل البشري القسري فتكون نتائجه كارثية في الغالب. يروي الحكيم الصيني منشيوس القصة التالية، أنقلها لكم من غير تعليق:

كان في مملكة سونگ رجل عجوز عَجول زرع حقله وأخذ يترقب نمو الأشتال فيه بفارغ الصبر. غير أن الأشتال واصلت نموها الطبيعي وخيبتْ أمل الرجل. وذات يوم، خطر بباله أن يسحب الأشتال إلى أعلى حتى يسرِّع في نموها. أنهى الرجل سَحْب الأشتال كلها، ثم عاد إلى بيته منهوك القوى وقال لذويه: "تعبت كثيرًا من سَحْب الأشتال طوال اليوم، لكن تعبي لم يذهب سدى، إذ أمست اليوم أطول منها بالأمس." ولما سمع ابنه هذا الخبر ذهب إلى الحقل مسرورًا، فرأى الأشتال آخذة في الذبول.

تتجلى الطبيعة من خلال تناغم الداخل والخارج، الباطن والظاهر، في عملية تطورية متصلة الأسباب والنتائج. فمهما تكن الدرجة التي يبلغها التطور في تجليات الحياة، يُعَدُّ الباطن والظاهر خطان متوازيان يتفاعلان تفاعلاً متواصلاً، ويتوقف النمو على طبيعة هذا التفاعل. فالقوى الخارجية، على سبيل المثال، يمكن لها إما أن تثبط القوى الداخلية وإما أن تنشطها.

* * *

يعتقد علماء النفس السلوكيون behaviorists بوجود إمكانية لإشراط conditioning الفرد، بحيث يتصرف بحسب المطلوب منه. ويقوم اعتقادهم هذا على إمكانية تطويع الحيوان: فهُم يُشرطون الحيوانات بمعاقبتها عندما تمتنع عن تنفيذ ما يتوقع منها مروضوها وبمكافأتها عندما تطيعهم. ويتم ترويض حيوانات السيرك على هذا النحو: فالفيل، بجثته الضخمة ووزنه الهائل، يصعب عليه أن يقف على قائمة واحدة؛ لكنه يُساط ويقدَّم له الموز وسائر أنواع المكافآت لينفذ هذا التطويع المخالف لطبيعته. بالطريقة ذاتها، يُجبَر المساجين في معسكرات الاعتقال على الكلام والتصرف وفقًا لرغبة السلطات. ومنه، يتوهم السلوكيون أن بوسعهم، باستعمال قوى خارجية، تطويع البشر على التصرف بحسب ما يُملى عليهم.

ولهذا السبب أيضًا، كثيرًا ما يُظَن، عندما يأتي ذكر الثقافة، بأنها مسألة فَرْض قوالب معينة على الناس – قَوْلَبَتهم – ليس إلا. يمكن لنا، على سبيل المثال، أن نتعلم كيفية التصرف، كيفية التحدث بأسلوب أو بلهجة معينين، ارتداء ثيابنا بحسب الموضة الدارجة في المجتمع، إلخ. إن الطريقة التي تتم التربية وفقًا لها، والتقاليد التي يجد المرء نفسه، منذ ولادته، محاطًا بها، والتعليم الذي يلقِّن الطفل ماذا يفكر وكيف يفكر – هذه العوامل جميعًا تشكل جانبًا من "الثقافة" المزعومة. وبالمثل، فإن التراث – وهو خلاصة التفكير الجمعي للأجيال السابقة – يُفرَض فرضًا على الذين "ينتمون" إليه، فيدخلون في قالبه.

على نحو مماثل، يلعب كلٌّ من التاريخ والعرق واللغة والدين والمناخ الاجتماعي دوره في تكوين أسس شخصية الفرد. وهكذا يتلون تعبير "ثقافة" – عندما يُستعمَل بالمعنى الجمعي – بصبغة إقليمية، قطرية، قَبَلية، دينية، طائفية، متعصبة ومتزمتة غالبًا. من هذا المنطلق، نجد "الثقافة الإسلامية" و"الثقافة المسيحية"، "الثقافة العربية" و"الثقافة الغربية"، إلخ. لقد أضحت الثقافة عامل تفتيت وتجزئة، وكأن مهمة كل ثقافة باتت "منافسة" الثقافات الأخرى! إن كل أمة أو جماعة بشرية تخشى فقدان ثقافتها أو "طمسها" أو "غزوها" لأن كل فرد من أفراد هذه الأمة أو الجماعة يماهي بين هذه الثقافة وبين الأفكار الجمعية التي كونتها "عشيرته" وطريقتهم في السلوك. فالثقافة، لدى كل جماعة بشرية، هي الوسيلة الجماعية للبحث عن الأمان – أكانت هذه الجماعة دينية، عرقية، إقليمية، أو قومية. والفرد نفسه مشروط كذلك من الخارج، لأن ما دعوناه "ثقافة" ما هو إلا مسألة عادات وأذواق مكتسَبة وتقيُّد بقواعد معينة للسلوك.

* * *

يقيم المجتمع، في كل حضارة، أطُرًا ومقاييس (= قوالب) غير قابلة للتبديل؛ وكل مَن يراعي هذه الأطُر والمقاييس، كل مَن يدخل في هذه القوالب، يرتقي على الصعيد الاجتماعي ويُعَد، بنظر الناس، "مثقفًا". قد تكون لحضارة أخرى عادات مختلفة وأساليب ومناهج تربوية (= قوالب) أخرى؛ ومع ذلك، يَعدُّ المجتمع اكتساب هذا "الورنيش" ثقافةً! قد تتضمن كلمة "ثقافة" قدرة المرء على القيام بعدد من الأمور، كأن يكون صاحب ذوق أدبي أو موسيقي، أو يكون متكلمًا بارعًا، فيلمع في المناقشات والمناظرات – ولا همَّ فيما بعد إذا ربط "ثقافته" بمصلحة فردية (أي بـ"الأنا" ego) أو بمنفعة اجتماعية. إنما يجب ألا يغيب عن بالنا أن المصلحة أو المنفعة الضيقة، بما أنها تختلف من شخص لآخر ومن فئة اجتماعية لأخرى، فإن الثقافة، إذا فهمناها على هذا النحو، تعدم أية قاعدة فعل.

* * *

لا يمتُّ عنوان هذا الحديث إلى "التثقف" بأية صلة، لأن التثقف، في الواقع، أمر لا وجود له! فعندما "نتثقف"، أو بتعبير آخر، عندما نزيد من "مركزية الأنا" egocentricity لدينا، لا تكون ثمة ثقافة-زراعة حق، مهما كانت القدرات والمواهب التي ننمِّيها فينا ذات شأن. الثقافة-الزراعة الحقيقية فعل داخلي، بناء باطني للإنسان، يرمي إلى تهذيب شخصيته، كما جاء في بداية الحديث، وإلى ربطه، من خلال كل عمل يقوم به وكل فكرة يفكر فيها وكل شعور يشعر به، بالعالم كله. في وسعنا أن نطبِّق قوى خارجية مختلفة، لكن هذا لا يُعَدُّ ثقافة-زراعة إلا بقدر ما يفيد في نمو النبتة، أي في بث الحركة في العمل الداخلي. ويؤسفني أن أقول إن مَن لم يمعن النظر بعدُ في فكرة انتماء ما ندعوه الـ"أنا" إلى طبيعة الإنسان الحق أو عدم انتمائه لن يتمكن من أن يصبح إنسانًا مثقفًا، لا اليوم ولا في أي يوم!

إن رغبتنا في التثقف – أقول الرغبة ولا أقول الإرادة – غالبًا ما تكون شكلاً من أشكال الأنانية. هي رغبة ليس في التفوق على عامة الناس وحسب، بل ورغبة في نيل منزلة رفيعة بين المتفوقين منهم! إنها تتحول إلى طموح إلى المجد والتميز وإلى إيجاد هوية متفوقة. (جدير بالذكر أن "الطموح" و"الطمع" يشيران إلى دافع واحد، إلى آلية فكرية واحدة، وإنْ يكن على مستويين مختلفين.) وتكون الثقافات الدينية والقومية إلخ بمثابة المعبَر إلى بلوغ تلك المنزلة المنشودة.

* * *

أضحت حاجة "البحث عن هوية" أحد المفاهيم الأوسع انتشارًا في أيامنا هذه، لأنه يؤلمنا أن نكون بلا هوية، أن نكون "لاأحد"‍‍ nobody! فمنذ طفولتنا المبكرة نُشرَط – بل نُبرمَج – على تعلُّم كيف نصبح "أحدًا" somebody! لذا نجد معظم فئات المجتمع تُنشئ أبناءها على تحقيق أهدافها ومطامحها (= مطامعها). وهكذا يقتصر دور الأبناء على تلبية طموح الآباء وأحلام المجتمع ورغباته. نقرأ، بهذا الصدد، في النبي لجبران:

إن أولادكم ليسوا بأولادكم.
إنهم أبناء وبنات توق الحياة إلى ذاتها.
بكم يأتون إلى الحياة، لكنْ ليس منكم […].
لكم أن تمنحوهم محبتكم، ولكن دون أفكاركم،
فلهم أفكارهم. […]
ولكم أن تجتهدوا لتكونوا مثلهم، لكن لا تسعوا أن تجعلوهم مثلكم.
فالحياة لا تعود القهقرى، ولا هي تتمهل عند الأمس.

إن زرع مطامح (= مطامع) الآباء في نفوس البنين يجرِّد التربية من مضمونها الأخلاقي والروحي. فهي إذ ذاك، إذا اقترنت بالعلم، تشير إلى بلوغ هدف اجتماعي وتولِّي منصب مرموق: يجب أن أصبح طبيبًا، مهندسًا، محاميًا، "مسؤولاً" (كذا!) – وإلا فلن أكون نفسي حقًّا. لذا أضحت الثقافة الحقيقية عملة نادرة في مجتمعنا وفي سائر المجتمعات.

* * *

أود هنا، وقد أتيت على ذكر التربية، أن أتوسع قليلاً في مفهومها – بقدر ما يسمح به الوقت المخصص للحديث – لأنها، برأيي، تهدف إلى تحقيق غاية نبيلة وسامية، هي إفصاح صميمي وجوهري عن غاية وجود الإنسان نفسه. فالتربية الحقيقية هي سيرورة تعليم الإنسان معنى وجوده والغاية منه. وليس من معنى لوجود الإنسان وغاية إلا بتحقيق المعرفة والمحبة: تتجلى المعرفة في تعليم الإنسان بأنه قد وُجد في هذا العالم ليعرف وبأن عليه، بالتالي، أن يصرف حياته مفتشًا عن حقيقة وجوده؛ وتتجلى المحبة في تعليم الإنسان بأن وجوده مرتبط بغاية أخلاقية أصيلة فيه، سامية غاية السمو، تتلخص في سعيه إلى تحقيق الحرية والطمأنينة والسلام، التي تتجسد بأنصع صورها في الخدمة والتضحية والعمل في سبيل سعادة الإنسانية جمعاء. الإنسان موجود في المجتمع، مع الآخرين، لأن الإنسان "المجرد" أو "المعزول" غير موجود؛ فوجوده مع الآخرين يشير إلى التضامن والمشاركة والتعاطف، لا إلى الانقسام والمنافسة والتناحر.

هكذا تكون التربية السوية – والثقافة جزء منها – وسيلة لتحقيق إنسانية الإنسان. لكن التربية في عالم تكنولوجي وإيديولوجي منقسم على ذاته تهدف إلى إشباع نَهَم الإنسان في مجتمع فاسد، إلى إشباع غروره وعنجهيته، وتشير إلى "تربية" شهواته ونزواته من خلال تحصيل المعرفة. ففي حقل العلم، مثلاً، يتعلم الإنسان السعي في اكتساب المعلومات للتزوُّد بمعرفة تقنية، لكنْ دون ربط هذه المعرفة بغاية إنسانية رفيعة. ولعل التعلق بالقومية أو الإقليمية أو الدين، والعمل على توطيد هذا التعلق، أمسى غاية من غايات العلم في شكله الحديث. وجليٌّ أن الإيديولوجيات السائدة لا تدعو الإنسان إلى تحصيل العلم والثقافة إلا لمنافسة الإيديولوجيات الأخرى. لذا يندر أن نعثر على إنسان يتعلم أو يتثقف ليزداد رقيًّا في سلَّم المعرفة والمحبة، أو لأن واجبه الإنساني السامي يستدعي ضرورة المعرفة لأنها وثيقة الارتباط بمعنى وجوده.

ومنه، نرى أن كل ثقافة مقيدة بإيديولوجيا معينة، أو بأية فكرة لا تُعنى بصقل باطن الإنسان ولا تكرِّس المعرفة كوسيلة للتحرُّر وللسمو بإنسانية الإنسان، تؤدي حتمًا إلى النزاع والحروب. إن ربط الثقافة بالإيديولوجيا مسعى مغلوط من أساسه، لكنه، بكل أسف، واقعي: فالواقع يشير إلى أن الثقافة تتضمن، في مفهومها الواقعي الممارَس، فكرة التجزئة والنزاع.

* * *

نحن، إذن، نعبِّر عن "هويتنا" بالانفصال عن الآخرين، بالإصرار على خصائصنا "الفريدة"، بعَزْونا إلى أنفسنا مميزات خاصة، وبالتمسك بثوابنا الخاص. وهكذا، كلما أصررنا على أهمية هوية ما، ازددنا انفصالاً عن بقية الناس: يحاول كلٌّ منا أن يحس بأهميته كفرد، بأنه "أنا"، وأن يُبقي على هذا الإحساس ويحافظ عليه بكل قواه، فيقول: "أنا كذا وكذا…" مع ذلك، تبقى هذه الهوية وهمية، لأنها مجرد صورة من صنع الـ"أنا" نفسها. فواقع أن الإنسان، عندما يشعر بأنيَّته (الفردية أو الجمعية) وقد تقلَّصتْ، لسبب من الأسباب، وانتُقِص من أهميتها، يصاب بالذعر وبالقلق، ويناضل بكل قوته ليعيد إلى الـ"أنا" حجمَها المتوهَّم. يشير كل ما سبق إلى أن الاحتفاظ بهوية ما ثابتة من المحال.

الثقافة، إذن، عاجزة عن تحقيق ما ليس موجودًا أصلاً. فهذه الهوية الزائفة، هذا الإحساس الوهمي بـ"الأنا"، هذا الشعور الزائف بالانفصال، ما هو إلا نتاج للإشراطات المطبقة علينا بفعل التربية المشوهة التي تُعَدُّ الثقافةُ – للأسف – جزءًا منها، كما سلف. ومن هنا تنجم معاناة البشرية، شقاؤها المزمن: الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمارس العنف ويتعمد الوصول به إلى أقصى درجات القسوة وقَهْر الآخرين؛ إنه الكائن الوحيد الذي يحفر قبره بيديه وبأظافره؛ إنه وحده الذي يبني من جهة، ليهدم ما بناه من جهة ثانية؛ وحده الذي يدمر الطبيعة ويستنفد مواردها؛ وحده الذي يستقتل للوصول إلى السلطة والنفوذ ويطلب، في جشع لا يعرف الحدود، أشياء تافهة ليس في حاجة إليها. هذه الرغبة في النفوذ، هذا الجشع، هذه القسوة، تنجم جميعًا عن أفكاره الخاصة التي يروق له أن يدعوها "ثقافة"! ومع ذلك، فهو يأبى إلا أن يتشبث بهذه الأفكار، وكأن حياته نفسها متوقفة على الاستمرار في اعتناقها! هل تعلمون كيف يصيد بعضُ قبائل الزنوج القرود؟

أتذكر – منفعلاً – أنني، وأنا بعدُ طفل، شاهدت عند أحد رفقائي – وكانت عنده آلة عرض سينمائية للأطفال – فيلمًا قصيرًا إلى حدِّ السذاجة، فيلمًا لا تزال صورُه مرتسمة في مخيِّلتي وتستدعي فيَّ ذلك الانفعال الأول إلى اليوم. على ملاءة سرير بيضاء، مثبَّتة بدبابيس على حائط غرفته، رأينا صورًا متراقصة لكيفية اصطياد الزنوج للقرود: يقوم الزنوج بربط قرعة مجوفة إلى نخلة جوز هند، ثم يتوارون بعد أن يلقوا في قاعها بحفنة من حبات الفول السوداني. وما هي إلا هنيهات حتى يظهر القرد، فيحشر يده في عنق القرعة الضيق جدًّا ويقبض على حبات الفول. لكن عنق القرعة أضيق من أن يسمح له بسحب يده منها وهي قابضة على الحبات. فيشد القرد ويشد، ويزعق جزعًا، لكن من غير جدوى. فما قَبَضَ عليه، متوسمًا فيه الغذاء، هو الذي يستبقيه أسيرًا! ثم ما يلبث الزنوج أن يعودوا، فيوثقون الحيوان المسكين ويكسرون القرعة لتخليص قبضته العالقة. وإلى اليوم، لا أزال أتساءل: ما الذي يمنع القرد من فتح قبضته المغلقة على حبات الفول والإفلات من الفخ المنصوب له؟ بربكم، ألسنا نفعل عين ما يفعله القرد عندما نتشبث بركام من الأفكار والمفاهيم والمعتقدات الضيقة التي تغذي فينا وهم الثقافة والمعرفة، بينما لا تفعل هذه في الواقع غير إبقاء عقولنا مأسورة، حبيسة جدران صماء وأفق ضيق؟!

(أدعوكم، بهذا الصدد، إلى قراءة رواية ميخائيل نعيمه اليوم الأخير، حيث نقرأ كيف صرف أستاذ جامعي كبير الساعات الـ24 المتبقية من حياته بعد أن جاءه في منتصف الليل هاتفٌ خاطبَه قائلاً: "قُمْ ودِّعْ اليوم الأخير!")

* * *

يقول أرنولد توينبي: "إن التقدم الذي ندعوه حضارة ليس إلا تطورًا في التكنولوجيا والعلم والتحكم بمصادر الطاقة." هذا "التقدم" المزعوم، إذن، ليس ارتقاءً في سلَّم الفضيلة والأخلاق، لأن الفضيلة والأخلاق لا تنمو مترافقةً مع الشعور بالانفصال عن الآخرين، ولا مع الرغبة في أن نكون "أحدًا"! لنعد إلى مثال البذرة: إنها لا تنمو بفضل عناية المُزارع، بل بفضل طاقة الحياة الكامنة فيها، فتهبنا شموخ السنديان ورقَّة البنفسج. لكن المُزارع إذا أتلف البذرة لن تنمو أبدًا؛ على النحو نفسه، لن ينمو الإنسان إذا احتفظ بصورة "الأنا" الوهمية هويةً وتمسَّك بها وتشبث، أي إذا حاول "زراعة" ما هو غير موجود أصلاً!

الثقافة الحقيقية هي ما يساعد على تجاوز "الأنا"، أو بالأدق، على إدراك وهمها، بحيث تنكسر قوقعتها، فتتسع وتتسع لتشمل الكون بأسره. لقد كتب المفكر الثيوصوفي جيناراجاداشا يقول:

الإنسان المثقف ليس كذلك بفضل نشأته ومحتده، لكن بفضله هو. هكذا يمكن لنا أن نصادف أناسًا لم ينالوا إلا حظًّا يسيرًا من الثقافة والتعليم، لكنهم صقلوا في أنفسهم وجهات نظر تعبِّر عن ثقافة رفيعة، لأن وجهة النظر التي يتبناها المثقف الحقيقي هي مركز ليس هو بذاته، بل هو "أنا" أوسع بما لا يقاس.

الثقافة الزائفة، إذن، تتضمن كوننا مشروطين بإحساسنا الوهمي بالانفصال والتفرُّد؛ إنها كل ما يسعى إلى توطيد إحساسنا بـ"الأنا".

* * *

يتوهم الإنسان أن ذكاءه وقدراته ملك له. لهذا يلتذ كل رجل، كل امرأة، كل طفل، – عن وعي منهم أو عن غير وعي، – بحالة الرضا الذاتي. نحن نحاول دومًا إرضاء أنفسنا بالإحساس بثوابنا؛ وبالطبع، كلما وجدنا تقصيرًا لدى الآخرين، نصير – مباشرةً – أشد إحساسًا بتفوقنا عليهم. وإلى هذا مردُّ استعدادنا الدائم للنقد؛ ولهذا يلذ لنا كشف عيوب الآخرين: إذ إننا عندما نرى ذواتنا خالية من هذه العيوب، يزداد إحساسنا بالتفوق؛ ولهذا نرى "القشة" في عين قريبنا، بينما نعمى عن رؤية "الخشبة" في عيننا، كما يقول المسيح. إن وعينا لحسناتنا وثواباتنا أكبر حجر عثرة أمام تفتُّح الثقافة الحقيقية.

* * *

بذا، ليست الثقافة الحقيقية توطيدًا لإحساسنا بالأنا وبالتفرُّد، بل إدراك نافذ لوهم صورة "الأنا" واستئصال لها من الجذور؛ الأمر الذي يستدعي يقظة كلِّية دائمة. فإذا انعدمت اليقظة، تغيب الثقافة الحقيقية، لتسود "ثقافة الأنا"! محال أن نحصل على حديقة جميلة غنَّاء إذا اكتفينا فقط باقتلاع عشبة طفيلية من حين لآخر؛ إذ يجب علينا ألا نكف عن تكريس انتباهنا بكامله، يقظتنا، وكل ما أوتينا من قدرة، لتحقيق هذه الغاية. بالمثل، يجب علينا أن نولي اجتثاث "الأنا" من أعماقنا اهتمامنا كله، في كل لحظة من لحظات حياتنا اليومية. فكلما تقلصت حدود "الأنا"، ازداد عمق شعور الإنسان بالطبيعة، بروعة الأصوات والألوان، بطيبة الإنسان، بالنظام وبالتناغم، بالصحة النسبية للأفكار المعروضة أمامه أو بغلطها النسبي، بخصال الآخرين، وبالانفتاح على الكون والحياة، حيثما تجلَّت.

لقد عجز الإنسان عن اكتشاف مغزى وجوده لأنه كرس صورة "الأنا" هويةً له؛ ومع هذا العجز، فقد علاقته المباشرة مع الطبيعة، ففقدت نظرته إلى الأشياء المحيطة به بساطتها وصفاءها، واختل توازنه الداخلي، فراح يبحث عن مخرج، في محاولة منه لاستعادة حالة التوازن تلك – فكانت الثقافة بالمفهوم الرائج هي البديل، بكل ما تتضمن من علم وفلسفة وفن وتراث وتكنولوجيا إلخ. وبذلك تشكَّل لدى الإنسان ميلٌ إلى تنمية قدراته الذهنية، فبات يُكثِر من القراءة، ولا يدع حفلة موسيقية أو معرضًا فنيًّا يفوته؛ صار يسرد آراء الآخرين في الفلسفة والعلم والفن، متهافتًا على قشورها، متناسيًا الجمال الذي يحيط به! يروي تراث بوذية زنْ القصة التالية، أنقلها لكم هي الأخرى من غير تعليق:

كان التلميذ دائم الشكوى لمعلِّمه: "أنت تحجب عني سرَّ الزنْ الأعظم." وما كان ليتقبل نفي المعلم ذلك. ذات يوم، بينما كان المعلم والتلميذ سائرين في نزهة على التلال، صدح طائر يشدو. قال المعلم: "هل سمعت ذلك الطائر يشدو؟" "نعم"، أجاب التلميذ. "طيب، أنت تعلم الآن أني لم أحجب عنك شيئًا." "نعم"، أجاب التلميذ.

الثقافة الحقيقية، إذن، فعل وعي، ولا قيمة فيها للقشور أو للطلاء الخارجي. إنها ثمرة تربية طبيعية سليمة وتعمُّق في فهم سلَّم القيم الأزلية التي ليست من خَلْق الإنسان: فالفطنة كلها، والجمال كله، والكمال كله في الطبيعة؛ والإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة، وما يتحلى به من فطنة أو مواهب ما هو إلا وسيلة للإفصاح عن الحقيقة التي تعتمل في أعماقه وتُعَدُّ جميع قوانين الكون كذلك إفصاحًا عنها. إن روائع العالم الحقيقية ليست ثمرة جهود الإنسان، بل هي في الطبيعة نفسها: فلننظر إلى روعة التعايش بين الحشرات والنباتات، إلى هجرات الطيور، إلى الزهرة التي تيمِّم وجهها شطر الشمس، إلى مودة الدلفين، وإلى ظاهرات طبيعية أخرى لا حصر لها، لندرك عظمة عجائب الطبيعة والمعجزات التي تجترحها كل لحظة. أمام ذلك كله، ليست "فتوح" العلم التي يتشدق بها الإنسان إلا ضربًا من لهو الأطفال و"مخدرات معنوية"، على حدِّ تعبير ميخائيل نعيمه، إنْ خدرت شعوره بسموه ونبل رسالته حينًا فلن تخدره إلى الأبد!

* * *

عندما يقر الإنسان بضرورة تخلِّيه عن "الأنا"، عن الصورة الزائفة التي يرسمها عن نفسه، عندما يطلق يده من إسار "حبات الفول"، يصير بإمكانه أن يتحد بكمال يفوق أبعد شطحات مخيِّلته. إذ ذاك فقط يكون الإنسان مثقفًا، لأنه يجعل من نفسه تربة صالحة لـ"الكلمة-البذرة". وعندما يكتشف أنه في الحق واحد مع الكل في الكل، مع الوجود كله، مع القدرة التي تتجلى في روائع الكون، بما فيها نفسه، مع الروح السرمدي الذي منه، به، فيه، وإليه كلُّ شيء – إذ ذاك، بفعل وعيه الكوني، بفعل المحبة التي تصهره في بوتقتها، يبلغ مرتبة الروح. هذا وليس في قاموس الروح كلمة "أنا" أو كلمة "آخر": فالروح لا تعترف إلا بالوجود الكلِّي الذي يتجلى في أشكال لا حصر لها – هذا ما تؤكد عليه الحكمة الخالدة، على اختلاف ظهوراتها التاريخية.

نعم، أيها الإخوة والأخوات، لن يتأتى لنا أن نعي غاية وجودنا ونحققها ما لم نقتلع من أنفسنا كل ما من شأنه أن يوطد إحساسنا بـ"الأنا". لن نكون مثقفين حقيقيين إلا إذا جعلنا من عقولنا وقلوبنا – بل من عقلنا وقلبنا، لأننا واحد في الجوهر – حديقة نزرع فيها من زهور العالم أجملها؛ حديقة يمتزج فيها جوهرنا العميق بجوهر الأشياء كلها، في ألق من نور وفيض من المحبة.


* صياغة نهائية لحديث شبه مرتجَل ألقِيَ في أحد اجتماعات حلقة "الرسالة"، دمشق، 1987.

** كاتب ومترجم؛ محرِّر في مجلة معابر: www.maaber.org.