الطاوية والكونفوشية*
رونيه گينون**
لم تُبْدِ الشعوب القديمة، في غالبيتها، أي اهتمام البتة بالتأريخ لأحداث ماضيها تأريخًا دقيقًا؛ وبعضها حتى لم يستعمل، للدلالة على العصور السحيقة القِدَم على الأقل، غير أعداد رمزية، لا يجوز أخذُها على محمل التواريخ بالمعنى العادي والحرفي للكلمة من غير ارتكاب غلط فادح. أما الصينيون فهُم، من هذا القبيل، استثناء لافت للنظر إلى حدٍّ ما: فلعلهم وحدهم الشعب الذي أوْلى التأريخ لحولياته عنايةً دائمةً منذ أصل منقوله نفسه، وذلك بواسطة أرصاد فلكية دقيقة تتضمن وصفًا لحالة السماء لحظة وقوع الأحداث التي احتفظ بذكراها. في الإمكان إذن الجزمُ فيما يخص الصين وتاريخها القديم أكثر مما يمكن في العديد من الحالات الأخرى؛ وبذا نعلم أن أصل المنقول tradition هذا الذي تصح تسميته "صينيًّا" حصرًا يعود إلى حوالى 3700 سنة قبل العصر المسيحي. وتلك الفترة نفسها، بمصادفة طريفة إلى حدٍّ ما، تتطابق أيضًا مع بداية العصر العبراني، وإنْ يكن من الصعب، فيما يخص هذا الأخير، تعيين الحدث الذي يتطابق في الواقع مع نقطة الانطلاق هذه.
إن أصلاً كهذا، مهما بدا قصيًّا حين يقارَن بأصل الحضارة الإغريقية-الرومانية وبتواريخ العصر القديم الموسوم بـ"الكلاسيكي"، هو مع ذلك – والحق يقال – أصل حديث بعدُ إلى حدٍّ ما. فماذا كانت عليه، قبل تلك الفترة، حال العرق الأصفر الذي كان يقطن آنذاك على الأرجح بعض مناطق آسية الوسطى؟ من المحال تدقيق ذلك في غياب معطيات صريحة بما يكفي؛ لكنْ يبدو أن هذا العرق قد مرَّ بطور من أطوار الخمول ذي مدة غير معينة وأنه انتُشِل من هذه الغفوة في لحظة اتسمت أيضًا بتغيرات هامة لدى أجزاء أخرى من البشرية. قد يكون إذن – ولعل هذا هو الأمر الوحيد الثابت ثبوتًا واضحًا إلى حدٍّ ما – أن ما يبدو وكأنه "بداية" لم يكن حقًّا غير استيقاظ لمنقول أسبق بكثير، لا بدَّ أنه جُعِلَ آنذاك يتخذ شكلاً آخر، وذلك لكي يتكيف مع شروط جديدة. مهما يكن من أمر، فإن تاريخ الصين، أو ما بات اليوم يسمَّى الصين، لا يبدأ بالضبط إلا مع فو-هي الذي يُعَد أول أباطرتها؛ وهنا لا بدَّ على الفور من إضافة أن اسم "فو-هي" هذا، الذي ترتبط به جملة المعارف التي تكوِّن عماد المنقول الصيني بالذات، يفيد في الواقع إشارةً إلى فترة بكاملها تنبسط على عدة قرون.
استعمل فو-هي لتثبيت مبادئ المنقول رمزين خطِّيين من أبسط ما يمكن ومن أكثر ما يمكن اختصارًا في آن معًا: الخط المتصل والخط المنقطع، العلامتين الدالتين على الـيَنگ yang والـين yin على التوالي، أي على المبدأين الفاعل والمنفعل اللذين، بانبثاقهما من نوع من استقطاب الوحدة الميتافيزيقية العليا، يولِّدان التجلي الكلي manifestation universelle بأسره. ومن توليفات هاتين العلامتين الاثنتين، في كل الترتيبات الممكنة بينهما، تتشكل الـكوا koua أو "مثلثات الخطوط" trigrammes الثمانية التي مافتئت الرموز الأساسية للمنقول الشرقي الأقصى.
يقال إن فو-هي،
[…] قبل أن يخط مثلثات الخطوط، نظر إلى السماء، ثم خفض ناظريه نحو الأرض، فرصد خصائصها، وأمعن النظر في خواص الجسم البشري وسائر الأشياء الخارجية.[1]
هذا النص مثير للاهتمام بصفة خاصة، من حيث إنه يحوي التعبير القطعي عن الثالوث الأكبر: السماء والأرض، أو المبدأين المتكاملين اللذين تنتج منهما الكائنات كلها، والإنسان الذي، في تطبُّعه بكليهما من حيث طبيعتُه، هو الحد الأوسط للثالوث، الوسيط بين السماء والأرض. ويجدر التدقيق بأن المقصود هنا هو "الإنسان الحق" [تشِنْ-جِنْ tchen-jen]، أي الإنسان الذي، ببلوغه التحقُّق بملء مَلكاته العليا،
[…] يستطيع أن يعين السماء والأرض على رعاية الكائنات وتحويلها، فيكون بذلك حصرًا سلطانًا ثالثًا مع السماء والأرض.[2]
ويقال أيضًا إن فو-هي أبصر تنينًا يخرج من النهر، جامعًا في ذاته قدرات السماء والأرض وحاملاً مثلثات الخطوط على ظهره، – وليس هذا غير طريقة للتعبير رمزيًّا عن الأمر نفسه.
بذا فإن المنقول في جملته كان متضمَّنًا من حيث ماهيته، كما لو كالبذرة، في مثلثات الخطوط، وهي رموز بديعة القدرة على أن تفيد حاملاً لممكنات غير محدودة: فلم يبقَ إلا استنباط كل الاشتقاقات الضرورية منها، إنْ في مجال المعرفة الميتافيزيقية الخالصة وإنْ في مجال مختلف تطبيقاتها على النظامين الكوني والبشري. ولهذا الغرض، وضع فو-هي ثلاثة كتب لم يصلنا منها إلا آخرها الموسوم بـيي-كِنگ Yi-king أو "سِفْر التحولات"؛ ونص هذا الكتاب من الاختصار المكثف أيضًا بحيث يمكن فهمُه وفقًا لمعانٍ عديدة، هي إلى ذلك متوافقة فيما بينها كل التوافق، بحسب ما إذا كان يُقتصَر على المبادئ حصرًا أو كان يراد تطبيقُها على هذا النظام بعينه أو ذاك. بذا هناك، فضلاً عن المعنى الميتافيزيقي، العديد من التطبيقات العَرَضية contingentes، المتفاوتة من حيث الأهمية، تكوِّن عددًا مساويًا من العلوم النقلية: تطبيق منطقي، تطبيق رياضي، تطبيق فلكي، تطبيق فسيولوجي، تطبيق اجتماعي، وهلم جرا؛ حتى إن هناك تطبيقًا تكهُّنيًّا، يُعَدُّ إلى ذلك واحدًا من أدنى تلك التطبيقات جميعًا وتُترَك مزاولتُه للمشعوذين الجوالين. إذ إن تلك، على كل حال، خاصية تشترك فيها جميع العقائد النقلية، ألا وهي أنها تتضمن أصلاً إمكانات جميع التشعبات القابلة للتصور، بما فيها طائفة غير محدودة من العلوم التي ليس لدى الغرب الحديث أدنى فكرة عنها، كما وجميع التكيُّفات التي قد يتفق للظروف اللاحقة أن تقتضيها. لذا لا داعي للعجب من أن التعاليم المستودَعة في الـيي-كِنگ، تلك التي صرح فو-هي نفسه أنه استمدها من ماض قديم جدًّا ويصعب تعيينُه جدًّا، قد صارت بدورها الأساس المشترك للمذهبين اللذين استمر المنقول الصيني من خلالهما حتى أيامنا هذه واللذان، مع ذلك، بسبب من اختلاف المجال الذي يعود إليه كل منهما اختلافًا تامًّا، قد يبدوان للوهلة الأولى وكأن ليست بينهما أية نقطة تماس – ألا وهما الطاوية والكونفوشية.
ما هي الظروف التي اقتضت، بعد انقضاء حوالى ثلاثة آلاف سنة، ضرورة إعادة تكييف réadaptation العقيدة النقلية، أي ضرورة تغيير لا يتناول المضمون، الذي يبقى بدقة تامة هو هو دومًا، بل يتناول الأشكال التي "تتجسد" فيها هذه العقيدة إذا صح التعبير؟ تلكم أيضًا نقطة أغلب الظن أنه يصعب إيضاحها تمامًا لأن هذا الأمور، سواء في الصين أو في أي مكان آخر، من الأمور التي لا تترك أثرًا البتة في التاريخ المكتوب، حيث تكون النتائج الخارجية أظهر بكثير من الأسباب العميقة. ما يبدو مؤكدًا، على كل حال، أن العقيدة، كما صيغت أصلاً في عصر فو-هي، لم تعد آنذاك مفهومة على الإجمال في أكثر ما فيها جوهرية؛ وأغلب الظن أن التطبيقات التي اشتُقت منها قبلئذ، وبالأخص من وجهة النظر الاجتماعية، لم تعد توافق شروط حياة العرق التي يبدو أنها في أثناء ذلك قد تبدلت تبدلاً محسوسًا للغاية.
كان ذلك في القرن السادس قبل العصر المسيحي؛ ومن الجدير بالملاحظة أنه في ذلك القرن وقعت تغيرات لا يُستهان بها لدى غالبية الشعوب، بحيث يبدو أن ما جرى في الصين آنذاك مرتبط لا محالة بسبب ما، لعل من الصعب تحديده، لكن مفعوله أثَّر في الإنسانية الأرضية جمعاء. لكن الغريب في بابه هو أن هذا القرن السادس يمكن له أن يُعَدَّ، على نحو شديد العمومية، بداية العصور "التاريخية" بحصر المعنى: فحين يراد العودة بالتاريخ إلى ما قبله يصير من المحال وضع تسلسل تأريخي تقريبي حتى، اللهم إلا في بضع حالات استثنائية، كحالة الصين بالدقة؛ أما اعتبارًا من ذلك العهد، على العكس، فتصير تواريخ الأحداث معلومة في كل مكان بدقة كبيرة إلى حدٍّ ما – وقطعًا ثمة هاهنا ما يستحق شيئًا من التفكر. فالتغيرات التي وقعت آنذاك أبدت إلى ذلك خصائص مختلفة بحسب البلدان: فالهند، على سبيل المثال، شهدت ولادة البوذية، أي تمردًا على الذهنية النقلية، ذهب حتى نفي كل سلطة، بل حتى نفي حقيقي للرئاسة anarchie في النظام العقلي وفي النظام الاجتماعي[3]؛ أما في الصين، في المقابل، فقد تكوَّن في آن معًا، متقيدَين بخطِّ المنقول حصرًا، الشكلان المذهبيان الجديدان اللذان يُطلَق عليهما اسما الطاوية والكونفوشية.
بذا كان مؤسِّسا هذين المذهبين، لاو-تسُه وكُنگ-تسُه (الذي سمَّاه الغربيون كونفوشيوس)، متعاصرين؛ ويخبرنا التاريخ بأنهما التقيا ذات يوم. سأل لاو-تسُه صاحبه: "هل اكتشفت الـطاو؟" فأجابه كُنگ-تسُه: "بحثت عنه عشرين وسبع سنين ولم أجده." وعليه، اكتفى لاو-تسُه بإعطاء محدِّثه هذه النصائح القليلة التالية:
الحكيم يحب خمول الذِّكر، فلا يفصح عن ذاته لأيٍّ كان. إنه يدرس الأوقات والظروف؛ فإذا كانت اللحظة مواتية تكلَّم، وإلا سكت. مَن بحوزته كنزٌ لا يُره لجميع الناس؛ بذا فإن الحكيم حقًّا لا يكشف عن الحكمة للجمهور. هذا كل ما عندي لأقوله لك، فاستفدْ منه.
ولدى عودة كُنگ-تسُه من هذه المقابلة قال:
لقد رأيت لاو-تسُه؛ إنه أشبه بالتنين. أما التنين فلا أدري كيف يمكن للرياح والسحب أن تحمله فيعرج حتى أعالي السماء!
تحدِّد هذه النكتة التي رواها المؤرخ سِّهْ-مَتْسْين تحديدًا كاملاً موقع كلٍّ من المذهبين – والأصح منه قولنا: شعبتَي العقيدة الواحدة – اللذين اتفق للمنقول الشرقي الأقصى أن ينقسم إليهما: فالمذهب الأول تضمَّن أساسًا الميتافيزيقا الخالصة، التي التحقت بها سائر العلوم النقلية ذات المرمى النظري العقلي spéculative (أو "المعرفي" cognitive بالأدق)، بينما انحصر الثاني في المجال العملي، مختصًّا حصرًا بميدان التطبيقات الاجتماعية. لقد اعترف كُنگ-تسُه نفسه بأنه ليس "خليقًا بالمعرفة" البتة، أي بأنه لم يبلغ المعرفة المثلى، معرفة النظام الميتافيزيقي وما فوق العقلاني supra-rationnel؛ لقد كان مطَّلعًا على الرموز النقلية، لكنه لم ينفذ إلى معناها الأعمق. لذا كان لا بدَّ لعمله من أن يقتصر بالضرورة على مجال خاص وعَرَضي كان وحده من صلاحيته، لكنه كان على الأقل حريصًا كل الحرص على عدم إنكار ما يتخطاه. لكن التابعين وتابعي التابعين من مريديه لم يحذوا حذوه في موقفه هذا دومًا، حتى إن بعضهم، وقد وُصموا بعيب شديد الشيوع بين "أهل الاختصاص" من كل صنف، اتصفوا أحيانًا باستبداد بالرأي ضيق جلب عليهم، من جانب الشارحين الطاويين الكبار من القرن الرابع قبل الميلاد، مثل لِيه-تسُه وبالأخص تشوانگ-تسُه، بعض الردود اللاذعة السخرية. لكن النقاشات والخصومات التي وقعت من جراء ذلك في بعض الفترات يجب مع ذلك ألا تدعو إلى اعتبار الطاوية والكونفوشية بوصفهما مدرستين متزاحمتين، وهما لم تكونا قط ولا يمكن لهما أن تكونا كذلك، بما أن لكلٍّ منهما مجالها الخاص الذي تفرَّدت به تفردًا بينًا. فما ثَمَّ في تواجدهما معًا غير شيء سويٍّ ونظامي تمامًا، وتمايزُهما، من بعض الوجوه، يقابل إلى حدٍّ ما بالضبط، في حضارات أخرى، تمايُز السلطة الروحية والسلطان الزمني.
سبق لنا أن قلنا، إلى ذلك، بأن للمذهبين جذرًا مشتركًا هو المنقول الأسبق؛ إذ إن كُنگ-تسُه، شأنه في ذلك شأن لاو-تسُه سواء بسواء، لم يكن في نيَّته قط أن يعرض لنظريات ليست غير نظرياته الخاصة، نظريات تؤول بذلك إلى التجرد من كل مرجعية ومن كل مرمى حقيقي. فقد كان من عادة كُنگ-تسُه أن يقول: "إنْ أنا إلا رجل أحبَّ الأقدمين وبذل قصارى جهده لاكتساب معارفهم"[4] – وهذا الموقف، الذي يعاكس موقف المذهب الفردي لأهل الغرب المُحدَثين وادعائهم "الابتداع" بأي ثمن، هو وحده الموقف الذي يتوافق مع تكوين حضارة نقلية. إن كلمة "إعادة تكييف" التي سبق لنا أن استعملناها هي فعلاً الكلمة المناسبة هنا إذن؛ والمؤسسات الاجتماعية التي نتجت من ذلك تتحلى باستقرار ملحوظ، بما أنها استمرت منذ خمسة وعشرين قرنًا ونجت من كل فترات القلقلة التي مرت بها الصين حتى يوم الناس هذا. ليس في نيتنا أن نتوسع في شرح هذه المؤسسات التي هي، إلى ذلك، معروفة نوعًا ما في خطوطها العريضة؛ لذا سنكتفي بالتذكير بأن سِمَتها الجوهرية أنها تتخذ الأسرة أساسًا، وتتوسع منها لتشمل العرق، الذي هو مجموع الأسَر المنتسبة إلى الذرية الأصلية نفسها. فمن الخواص التي تتفرد بها الحضارة الصينية أنها تقوم بالفعل على فكرة العرق وعلى التضامن الذي يجمع أفراده فيما بينهم، في حين أن الحضارات الأخرى، التي تضم عمومًا بشرًا ينتمون إلى عروق مختلفة أو غير محددة تحديدًا واضحًا، تقوم على مبادئ موحِّدة مختلفة تمامًا عن مبدأ العرق الصيني ذاك.
حين يجري الكلام على الصين ومذاهبها بين أهل الغرب فإن الكونفوشية هي غالبًا ما يخطر بالبال بصورة تكاد أن تكون حصرية، الأمر الذي لا يعني، إلى ذلك، أنها تؤوَّل دومًا تأويلاً صحيحًا؛ إذ يُجعَل منها أحيانًا، على حدِّ زعمهم، نوعًا من "المذهب الوضعي" positivisme الشرقي، بينما هي في الواقع أبعد ما تكون عن ذلك، أولاً بسبب خاصيتها النقلية traditionnel، ولأنها أيضًا، كما قلنا، تطبيق من تطبيقات مبادئ عليا، في حين أن الوضعية تنطوي بالعكس على إنكار مثل هذه المبادئ. أما الطاوية فيُسكَت عنها عمومًا، حتى ليبدو أن الكثيرين يجهلون وجودها، أو على الأقل يحسبون أنها اختفت منذ أمد طويل وأنها لم تعد تحظى إلا بأهمية تاريخية أو آثارية وحسب؛ وسوف نرى فيما يلي أسباب هذا الغلط.
لم يكتب لاو-تسُه إلا رسالة واحدة فقط، هي إلى ذلك شديدة الاختصار: الـطاو-ته-كِنگ Tao-te-king أو "كتاب الطريق والاستقامة"؛ والنصوص الطاوية الأخرى كافة هي إما شروح على هذا الكتاب الأساسي وإما تدوينات متأخرة نسبيًّا لبعض التعاليم المتمِّمة التي كانت قبلئذ محض شفهية. والـطاو Tao، الذي يُترجَم حرفيًّا بـ"الطريق"، والذي أطلِقَ اسمُه على المذهب ككل، هو المبدأ الأعلى، منظورًا إليه من وجهة النظر الميتافيزيقية البحتة: إنه، في آن معًا، أصل الكائنات جميعًا وغايتها، كما يدل على ذلك دلالة واضحة الرمزُ الكتابي التصويري idéogramme الذي يمثِّله. أما الـته Te، الذي نفضل تأديته بـ"الاستقامة" بدلاً من "الفضيلة" كما جرت العادة أحيانًا، وذلك لكيلا يبدو علينا أننا نضفي عليه مدلولاً "خُلُقيًّا" ليس من روح الطاوية في شيء بتاتًا – الـته، نقول، هو ما يجوز لنا أن نسميه "تخصيصًا" spécification للـطاو بالنسبة إلى كائن بعينه، كالكائن البشري مثلاً: إنه المسلك الذي يجب على هذا الكائن أن يتبعه حتى تكون حياته، في الحالة التي هو عليها في الوقت الحاضر، بحسب "الطريق"، أو بعبارة أخرى، متوافقة مع المبدأ. ومنه فإن لاو-تسُه يتخذ موقفه أولاً في النظام الكلِّي، ثم ينزل إلى تطبيق بعينه؛ لكن هذا التطبيق، مع أنه يستهدف حالة الإنسان حصرًا، لا يجري من وجهة نظر اجتماعية أو أخلاقية بتاتًا؛ فالمنظور إليه هو دومًا وحصرًا الارتباط بالمبدأ الأعلى، وبذلك، في الواقع، لا نخرج من المجال الميتافيزيقي.
كذا فليس العمل الخارجي البتة ما توليه الطاوية اهتمامَها؛ فهي تعدُّه في الحاصل مما لا يُكترَث به بحدِّ ذاته، فتذهب صراحة مذهب "اللافعل" [وُو-ويْ wou-wei]، الذي يجد الغربيون بعامة شيئًا من الصعوبة في فهم مدلوله الحقيقي، مع أن بمقدورهم أن يستعينوا على هذا الفهم بنظرية "المحرك الساكن" moteur immobile الأرسطية التي تؤدي عمقيًّا المعنى ذاته، لكنهم على ما يبدو لم يتوفروا قط على استخلاص نتائجها. "اللافعل" non-agir ليس العطالة مطلقًا، بل هو بالعكس كامل الفاعلية، لكنها فاعلية مستعلية وداخلية تمامًا، غير متجلِّية، متحدة بالمبدأ، وتتعدى بالتالي سائر التمايزات وسائر المظاهر التي يحسبها العوامُ الحقَّ بعينه، في حين أنها ليست من الحق غير مجرد انعكاس متفاوت البُعد. لا بدَّ، إلى ذلك، من ملاحظة أن الكونفوشية نفسها، التي تتخذ على غير ذلك وجهة نظر العمل، لا يفوتها أن تتكلم على "الوسط الثابت" invariable milieu، أي على حال التوازن الكامل، الخالص من تقلبات العالم الخارجي المستديمة؛ لكن هذا الأمر لا يمكن له أن يكون بنظرها غير تعبير عن مثال نظري بحت، فلا تستطيع أن تدرك على الأكثر، في مجالها العَرَضي contingent، غير مجرد صورة عن "اللافعل" الحقيقي، بينما المقصود بنظر الطاوية أمر مختلف كل الاختلاف، هو عبارة عن تحقُّق فعلي تمامًا بهذا المقام المستعلي. فالحكيم الكامل، متخذًا مكانه في المركز من العجلة الكونية، يحرِّكها تحريكًا غير مرئي، بمحض حضوره، من غير أن يشارك في حركتها ومن غير أن يضطر إلى الانشغال بممارسة عمل ما؛ فتجرُّده المطلق يجعله سيدًا على الأشياء قاطبة، لأنه لم يعد قابلاً للانفعال بشيء:
لقد بلغ مقام عدم التأثر التام؛ ولما كان لا يبالي بالحياة ولا بالموت على حدٍّ سواء فإن انهيار الكون لا يسبب له أي اضطراب. فمن فرط ما أعمل بصيرته توصل إلى الحقيقة السرمدية، معرفة المبدأ الكلِّي الأحد. إنه يدع الكائنات تتطور بحسب مصائرها، فيما يقف هو في المركز الساكن من المصائر كلِّها. […] العلامة الخارجية على هذا المقام الداخلي هي ثبات الجنان: لا ثبات جنان المقدام الذي يحمل وحده، ولَعًا بالمجد، على جيش مرصوص الصفوف في المعركة، بل ثبات الروح الذي، مستعليًا عن السماء والأرض والكائنات كلها، يقيم في جسم لا يتمسك به، ولا يقيم أي وزن للصور التي تزوده بها حواسه، ويعرف الكل على الإجمال في وحدته الساكنة. هذا الروح، المستقل استقلالاً مطلقًا، هو سيد البشر قاطبة؛ فإذا حلا له أن يستدعيهم زُرافاتٍ للمثول في حضرته لهرعوا جميعًا إليه في اليوم المحدد؛ لكنه راغب عن الاستخدام.[5]
إذا اضطر حكيم متحقق، رغمًا عنه، أن يتولى المملكة برعايته لاستعمل، بلزومه مقام اللافعل، ما يتيسر له من عدم تدخُّله في إطلاق العنان لميوله الفطرية، ولاستقامت المملكة من تفويض أمرها إلى يدَي هذا المرء. فمن غير أن يُعمِلَ جوارحَه، ومن غير أن يستعمل حواسه الجسمانية، جالسًا من غير حراك، يبصر كل شيء بعينه المستعلية؛ مستغرقًا في المشاهدة، بوسعه أن يزعزع كل شيء كما يفعل الرعد؛ والسماء الطبيعية تتكيف مطواعةً مع حركات ذهنه؛ وجميع الكائنات تتبع دافع عدم تدخُّله مثلما يتبع الغبارُ الريح. فلماذا ينصرف هذا المرء إلى التحكم بالمملكة، بينما حسبه ترك الأمور تجري مجراها؟[6]
لقد أصررنا خصوصًا على مذهب "اللافعل" هذا؛ فبالإضافة إلى أنه فعليًّا واحد من جوانب الطاوية الأهم والأخص بها، ثَمَّ لهذا الإصرار أسباب أخص سيتيح ما يلي فهمَها فهمًا أفضل. لكن سؤالاً ينطرح هنا: كيف يمكن للمرء بلوغ المقام المذكور بصفته مقام الحكيم الكامل؟ الجواب هنا، كما هو في سائر العقائد المماثلة التي نقع عليها في حضارات أخرى، جواب بيِّن للغاية: يتم بلوغ هذا المقام بالمعرفة حصرًا؛ لكن هذه المعرفة، تلك بعينها التي أقر كُنگ-تسُه بأنه لم يحصل عليها البتة، هي من رتبة أخرى تمامًا غير رتبة المعرفة العادية أو "الدنيوية"، ولا تمت بصلة بتاتًا إلى معلومات "المثقفين" الخارجية ولا، بالأوْلى، إلى العلم كما يفهمه أهل الغرب المُحدَثون. لكن المقصود هنا ليس تنافرًا، على كون العلم العادي، بحُكم الحدود التي يضعها والعادات الذهنية التي يطبع ممارسيه بها، كثيرًا ما يكون عقبة في سبيل اكتساب المعرفة الحقيقية؛ لكن كل مَن يتحصل على هذه المعرفة لا بدَّ له أن يعدَّ مما لا يؤبه له التنظيرات النسبية والعَرَضية التي تطيب لغالبية القوم، والتحليلات والبحوث التفصيلية التي يتعثرون بها، والتباينات العديدة في الآراء التي تنجم عن ذلك لا محالة:
الفلاسفة يتوهون في تنظيراتهم، وأهل السفسطة في تمييزاتهم، والباحثون في استقصاءاتهم. جميع هؤلاء القوم واقعون أسرى محدودية المكان، تعمي أبصارهم الكائنات الخاصة.[7]
أما الحكيم، بالعكس، فقد تخطى جميع التمييزات الملازمة لوجهات النظر الخارجية؛ ففي النقطة المركزية حيث يقف، يختفي كل تناقض وينحل في توازن كامل:
في الحال القديمة، كانت هذه التناقضات معدومة. فكلُّها مشتق من تكثُّر الكائنات ومن ارتباطاتها الناتجة من الدوران الكلِّي؛ ومن شأنها أن تتوقف بتوقف الكثرة والحركة. وهي تكف من فورها عن التأثير في الكائن الذي اختزل أنيَّته المميزة وحركته الخاصة إلى لاشيء تقريبًا. هذا الكائن لا يعود ينازع أي كائن آخر لأنه راسخ في اللانهاية، ممحو في اللامنتهي. لقد بلغ نقطة انطلاق التحولات وهو واقف فيها، وهي نقطة محايدة لا نزاعات فيها. فبتركيزه طبيعتَه، وبتغذيته روحَه الحيوي، وباستجماعه قدراته كلها، اتحد بمبدأ التكونات كلها. وبما أن فطرته تامة وروحه الحيوي سليم، ليس بمقدور أي كائن أن يمسَّ به.[8]
لهذا بالضبط، وليس من جراء نوع من الارتياب الذي تستبعده بالطبع مرتبةُ المعرفة التي بلغها، يقف الحكيم بالكلِّية خارج جميع النقاشات التي تبلبل عوام الناس؛ فبالفعل، جميع الآراء المتناقضة بنظره لا قيمة لها على حدٍّ سواء لأنها جميعًا، بحُكم تناقُضها نفسه، نسبية على حدٍّ سواء:
نقطة نظره نقطة يبدو منها "هذا" و"ذاك"، "نعم" و"لا"، غير متمايزين بعدُ. هذه النقطة هي محور المعيار؛ إنها المركز الساكن من محيط دائرة تجري عليه الأعراض والتمييزات والفرديات جميعًا؛ لا تُرى منه سوى لانهاية ليست "هذا" ولا "ذاك"، ليست "نعم" ولا "لا". رؤية كل شيء في الوحدة الأصلية غير المتمايزة بعدُ، أو من مسافة تجعل كل شيء يغيب في الواحد – تلكم هي الفطنة الحق. […] فلا ننشغلنَّ بالتمييز، بل فلنرَ كل شيء في وحدة المعيار؛ ولا نناقشنَّ للفوز، بل فلنستعمل مع الآخرين طريقة مربي القرود. فهذا الرجل قال للقرود التي كان يربيها: "سأعطيكم ثلاث قلقاسات صباحًا وأربع مساءً." فكانت القرود جميعًا ساخطة. فقال عندئذ: "سأعطيكم إذن أربع قلقاسات صباحًا وثلاث مساءً." فكانت القرود جميعًا راضية. هذا الرجل، فضلاً عن مزية أنه أرضاها، لم يعطِها في الحاصل كل يوم إلا القلقاسات السبع التي خصصها لهم أصلاً. هكذا يفعل الحكيم: يقول "نعم" أو "لا" من أجل خير السلام، ويبقى هادئًا في مركز العجلة الكونية، غير مبال بجهة دورانها.[9]
يكاد يكون من النافل قولنا إن مقام الحكيم الكامل، بكلِّ ما ينطوي عليه مما لا يسعنا هنا أن نتوسع فيه، لا يمكن بلوغه دفعة واحدة، وإن المراتب الأدنى منه حتى – وهي بمثابة عدد مساو من الأشواط التمهيدية – غير متاحة إلا لقاء جهود ليست في مقدور إلا قلة قليلة من البشر. والمناهج التي تستعملها الطاوية لهذا القصد مناهج اتباعها عسير بصفة خاصة، والمعونة التي تقدِّمها أقل بكثير من المعونة التي يمكن الوقوع عليها في التعليم النقلي لحضارات أخرى، كحضارة الهند مثلاً؛ إنها، على كل حال، تكاد أن تكون غير قابلة للممارسة لدى أناس ينتمون إلى عروق غير العرق الذي تكيفت معه بالأخص. إلى ذلك، فإن الطاوية، حتى في الصين، لم تحظَ قط بانتشار واسع جدًّا، وهي لم تستهدف ذلك أصلاً، ممتنعةً دومًا عن كل ترويج؛ وهذا التحفظ مفروض عليها بمقتضى طبيعتها نفسها: إذ إنها مذهب مستغلق جدًّا و"مُسارَري" initiatique أساسًا، تختص به، بما هو كذلك، النخبةُ وحدها، ولا يجوز بالتالي أن يتاح لجميع الناس من غير تمييز، لأن جميعهم ليسوا حقيقين بفهمه ولا بالأخص بـ"تحقيقه". يقال إن لاو-تسُه لم يستودع تعليمه إلا مريدين اثنين، أهَّلا بدورهما عشرة مريدين آخرين؛ وبعد أن كتب الـطاو-ته-كِنگ مضى إلى الغرب وتوارى عن الأنظار؛ وأغلب الظن أنه لجأ إلى معتزَل ما في التيبت أو الهماليا يتعذر الوصول إليه، و"لا يُعرَف أين ولا كيف صرف ما تبقى من عمره"، على حدِّ قول المؤرخ سِّه-مَتْسْين.
أما المذهب المتاح لجميع الناس، ذلك الذي ينبغي لهم جميعًا، بقدر مستطاعهم، أن يدرسوه ويضعوه موضع التطبيق، فهو الكونفوشية التي، إذ تشتمل على كل ما يخص الروابط الاجتماعية، هي كافية تمامًا لتلبية حاجات الحياة العادية. ومع ذلك، بما أن الطاوية تمثل المعرفة المبدئية التي يتفرع عنها الباقي كله، فإن الكونفوشية ليست في الواقع غير تطبيق للطاوية، إذا صح القول، على نظام عَرَضي، وهي تابعة لها بالضرورة بحُكم طبيعتها نفسها؛ لكن هذا أمر ليس لجمهور الناس أن ينشغل به، وقد يتفق له ألا يشتبه في وجوده حتى، بما أن التطبيق العملي وحده داخل في أفقه العقلي؛ و"الجمهور" الذي نتكلم عليه لا مناص من أن يشمل الغالبية العظمى من "المثقفين" الكونفوشيين أنفسهم. هذا الفصل الفعلي بين الطاوية والكونفوشية، بين مذهب الباطن ومذهب الظاهر، بصرف النظر عن مسألة الشكل، عبارة عن واحد من الفوارق المرموقة بين حضارة الصين وحضارة الهند؛ ففي هذه الأخيرة، ما ثَمَّ إلا بنية عقيدية واحدة، هي البرهمنية، المشتملة في آن معًا على المبدأ وعلى تطبيقاته كافة؛ ومن المراتب الأدنى إلى المراتب الأعلى، ليس هناك، إذا جاز القول، أي انقطاع في الصلة. هذا الفارق يعود، في جانب كبير منه، إلى الفارق بين الشروط الذهنية لكلٍّ من الشعبين؛ بيد أن من المرجح أن الاستمرار الذي حوفظ عليه في الهند – وأغلب الظن في الهند وحدها – كان قائمًا في قديم الزمان في الصين أيضًا، منذ عهد فو-هي حتى عهد لاو-تسُه وكُنگ-تسُه.
يتبين لنا الآن سبب قلة معرفة أهل الغرب بالطاوية: فهي لا تظهر في الخارج مثل الكونفوشية، التي يتجلى مفعولها تجليًا مرئيًّا في ظروف الحياة الاجتماعية كافة؛ إنها وقف حصري على نخبة، لعلها اليوم أقل عددًا مما كانت في أي يوم مضى، ولا تسعى بتاتًا إلى تبليغ العقيدة المستودَعة لديها إلى الخارج؛ أخيرًا، فإن وجهة نظرها نفسها وكيفية تعبيرها ومناهجها التعليمية هي من أغرب ما يكون عن الذهنية الغربية الحديثة. غير أن بعضهم، مع علمه بوجود الطاوية، ومع انتباهه إلى أن هذا المنقول لا يزال حيًّا، يتخيل أن تأثيرها على الحضارة الصينية جملةً، بسبب من خاصيتها المغلقة، تأثير مهمَل عمليًّا، إنْ لم يكن معدومًا تمامًا، – وذلك أيضًا غلط فادح. يبقى علينا الآن أن نفسر حقيقة الأمر بهذا الخصوص بمقدار ما يتيح المقام.
بالرجوع إلى النصوص القليلة التي أوردناها أعلاه بخصوص "اللافعل" non-agir، يصير في الإمكان، من غير كثير عناء، – من حيث المبدأ على الأقل، إنْ لم يكن من حيث كيفيات التطبيق، – فهمُ ماهية دور الطاوية، وهو دور التوجيه الخفي الذي يهيمن على الأحداث بدلاً من أن يشارك فيها مشاركة مباشرة والذي لا يحول عدمُ ظهوره واضحًا في الحركات الخارجية دون عمق فاعليته أشد العمق. فالطاوية تؤدي، كما قلنا، دور "المحرك الساكن": إنها لا تسعى البتة إلى التدخل في العمل، لا بل تزهد فيه زهدًا تامًّا، على اعتبار أنها لا ترى في العمل غير مجرد تعديل مؤقت وعابر، عنصر ضئيل من عناصر "تيار الأشكال" courant des formes، نقطة على محيط "العجلة الكونية"؛ لكنها، من ناحية أخرى، أشبه ما تكون بالمحور الذي تدور عليه هذه العجلة، المعيار الذي تنضبط عليه حركتُها، وهذا بالدقة لأنها لا تشارك في هذه الحركة، وحتى من غير أن تتدخل فيها تدخلاً صريحًا. فكل ما يُجتذَب في دورات العجلة يتغير ويدول؛ وحده يبقى ما يقف، باعتباره متحدًا بالمبدأ، ثابتًا عند المركز، سرمديَّته من سرمدية المبدأ نفسه؛ والمركز، الذي لا ينفعل بشيء في وحدته غير المتمايزة، هو نقطة انطلاق كثرة غير محددة من التعديلات التي تكوِّن التجلي الكلي.
لا بدَّ لنا من أن نضيف على الفور بأن ما قلناه لتوِّنا، فيما يخص أساسًا مقام الحكيم الكامل ودوره، بما أن هذا وحده مَن بلغ المركز فعليًّا، لا ينطبق انطباقًا صارمًا إلا على المرتبة العليا من المراتب الطاوية؛ فالمراتب الأخرى أشبه ما تكون بالوسائط بين المركز والعالم الخارجي، ومثلما تنطلق برامق العجلة من قبِّها وتصل بينه وبين المحيط، يؤمِّن هؤلاء، من غير انقطاع البتة، نقل التأثير الصادر من النقطة الثابتة حيث يقيم "الفعل غير الفاعل". إن مصطلح "تأثير" influence، وليس عمل، هو الأنسب هنا فعلاً؛ ويمكن لك أن تقول أيضًا، إذا شئت، إن الأمر عبارة عن "فعل حضور" action de présence؛ وحتى المراتب الدنيا، على كونها بعيدة للغاية عن كمال "اللافعل"، تظل تتطبع به على نحو ما. إلى ذلك، فإن كيفيات توصيل هذا التأثير خافية بالضرورة عمَّن لا يرون إلا ظاهر الأشياء؛ وهي لا تقل إبهامًا بنظر الذهنية الغربية – وللأسباب ذاتها – عن المناهج التي تتيح ارتقاء المراتب. لذا فمن غير المجدي مطلقًا التوسع فيما يسمَّى بـ"الهياكل عديمة الأبواب" و"المدارس التي لا يعلَّم فيها" أو فيما يمكن أن يكُونه تكوين تنظيمات لا تتصف بأية من خصائص "جمعية" بالمعنى الأوروبي لهذه الكلمة، وليس لها شكل خارجي معين، وليس لها أحيانًا اسمٌ حتى، والتي مع ذلك تنعقد بين أعضائها رابطة فعلية من أقوى ما يكون ومن أقل الروابط عرضةً للفسخ؛ فهذا كله ليس من شأنه أن يمثل شيئًا في المخيلة الغربية لأن المألوف لديها لا يتيح هنا أي حدٍّ يصلح للمقارنة.
على المستوى الأظهر، أغلب الظن أن ثمة تنظيمات تبدو أيسر قابلية للفهم نظرًا لأنها منخرطة في مجال العمل، على كونها هي الأخرى مغايرة من حيث "سرِّيتها" للجمعيات الغربية كافة التي تدَّعي الاتصاف بهذه الصفة بشيء من التبرير. فهذه التنظيمات ليس لها عمومًا إلا أجَل مؤقت؛ فتراها تكوَّن لغرض بعينه، ثم تختفي من غير أن تترك أثرًا حالما يتم إنجاز مهمتها؛ وهي ليست إلا مجرد تفرعات عن تنظيمات أخرى أعمق وأكثر ديمومة، تتلقى منها توجيهها الحقيقي، بينما زعماؤها الظاهرون غرباء تمامًا عن المراتب الطاوية. وبعضها مما لعب دورًا لا يُستهان به في ماض متفاوت البُعد ترك في ذهن الشعب ذكريات يعبَّر عنها تعبيرًا أسطوري الشكل: بذا سمعنا الناس يروون أن سادة جمعية سرية بعينها كانوا يأخذون في ماضي الزمان حفنة من الدبابيس ويرمونها على الأرض، ومن هذه الدبابيس كان يولد عدد مساو لها من الجنود المدججين بالسلاح! إنها بالضبط قصة قدمس زارع أسنان التنين[10]؛ ولهذه الأساطير، التي لا يخطئ العوام إلا في أخذها على محمل حرفي، تحت مظهرها الساذج، قيمة رمزية حقيقية للغاية.
إلى ذلك، قد يتفق في حالات عديدة لهذه الجمعيات التي نحن بصددها، أو لأظهرها على أقل تقدير، أن تكون على خلاف وحتى على نزاع بعضها مع بعض؛ ولن يفوت الراصدين السطحيين أن يستخلصوا من هذا الأمر اعتراضًا على ما ذهبنا إليه لتوِّنا وأن يستنتجوا منه أنه، ضمن شروط كهذه، ينتفي وجود وحدة التوجيه. هؤلاء لا يتناسون إلا أمرًا واحدًا: ألا وهو أن التوجيه المقصود "يتعدى" الخلاف الذي يعاينونه، ولا يقع قطعًا في المجال الذي يتأكد فيه هذا الخلاف والذي يصح عليه وحده. وإذا كان لا بدَّ لنا من الرد على أمثال هؤلاء المعارضين، لاكتفينا بتذكيرهم بالتعليم الطاوي في التكافؤ بين الـ"نعم" والـ"لا" في اللاتمايز الأصلي، وفيما يخص وضع هذا التعليم موضع التطبيق، لأحلناهم ببساطة إلى حكاية مربي القرود.
نظنُّنا أسهبنا في القول إقناعًا بأن التأثير الحقيقي للطاوية يمكن له أن يكون عظيمًا للغاية، مع بقائه دومًا غير مرئي ومستترًا؛ فأمور من هذا القبيل لا توجد في الصين وحدها، لكن يبدو أنها مطبَّقة فيها تطبيقًا أكثر دوامًا مما هو عليه في كل مكان آخر. ويُفهم من كلامنا أيضًا أن مَن هم على اطلاع ما على دور هذا التنظيم النقلي لا بدَّ لهم أن يحترسوا من المظاهر ويُبدوا الكثير من التحفظ في تقديرهم لأحداث كالتي تجري حاليًّا في الشرق الأقصى[11] والتي يُحكَم عليها في الغالب بالمقارنة مع ما يحدث في العالم الغربي، الأمر الذي يُظهرها على غير ما هي عليه تمامًا. لقد اجتازت الحضارة الصينية العديد من الأزمات الأخرى في الماضي، وانتهت دومًا إلى استعادة توازنها؛ وفي الحاصل، لا شيء يدل حتى الآن أن الأزمة الحالية أخطر بكثير من الأزمات السابقة؛ وحتى إذا أقررنا بأنها أخطر، ليس هذا مما يحملنا على الظن بأنها ستمس لا محالة بما هو الأعمق والأكثر جوهرية في منقول العرق الذي تكفي، إلى ذلك، ثلة صغيرة من البشر للحفاظ عليه سليمًا في فترات الاضطراب، لأن الأمور من هذه الرتبة لا تستند البتة على قوة الجمهور الفظة. يمكن للكونفوشية، التي لا تمثل إلا الوجه الظاهر للمنقول، أن تختفي حتى، إذا اتفق للشروط الاجتماعية أن تتغير بما يقتضي تكوين شكل جديد بالكلِّية؛ لكن الطاوية أبعد من تأثير هذه الأعراض الطارئة. فلا ننسينَّ أن الحكيم، بحسب التعاليم الطاوية التي نقلناها، "يبقى هادئًا في مركز العجلة الكونية"، مهما اتفق للظروف أن تتغير، وأنه حتى "انهيار الكون لا يسبب له أي اضطراب".
الترجمة عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس
* Le Voile d’Isis, 1932, pp. 485-508 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 102-129.
** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه الفضول إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المأثورات "الدينية" الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)
[1] كتاب شعائر تشِوْ.
[2] تشُنگ-يُنگ، 22.
[3] كان رونيه گينون في بدء أمره، بتأثير من ممثلي المنقول الهندوسي الذين تعرف إليهم، يرى في البوذية مجرد "تمرد على الذهنية النقلية"، من حيث إنها لا تقيم وزنًا لنظام الطوائف الأربع ولسلطة النخبة البرهمنية العقلية عليه، ولا تأخذ برأي الڤيدنتيين في وجود "ذات" (آتما ātma) دائمة في الإنسان، وتعدم أية شعائر مُسارَرة initiation باطنية لا غنى عنها لكل مَن يريد دخول مجال الباطن؛ وقد ظل على هذا الرأي حتى تعرف إلى مؤلفات الفيلسوف الهندي آنندا كوماراسوامي الذي بين له بالحجة المقنعة أن البوذية مذهب باطني خالص يستغني، بالتالي، عن أية قاعدة ظاهرية اجتماعية وأخلاقية (دور البوذا في قلب الهندوسية أشبه بدور المسيح في قلب دين إسرائيل أو بدور الحلاج في قلب الإسلام)، ويلبي شروط المُسارَرة الباطنية الأرثوذكسية، ويتيح للمريد بلوغ أسمى درجات التحقق الروحي. (المحرِّر)
[4] ليون-يو، 7.
[5] تشوانگ-تسُه، 5.
[6] تشوانگ-تسُه، 11.
[7] تشوانگ-تسُه، 24.
[8] تشوانگ-تسُه، 19.
[9] تشوانگ-تسُه، 2.
[10] قدمس أمير فينيقي هو المؤسس الأسطوري لمملكة طيبة في اليونان. (المحرِّر)
[11] المقصودة هي الأحداث التي عصفت بالصين الجمهورية في ثلاثينيات القرن العشرين في أثناء الصراع على السلطة الذي تلا القطيعة (1927) بين تشانگ كاي-تشك وبين الشيوعيين. (المحرِّر)