السأم – ألان

السَّــأم*

ألان

ألان**

 

حين لا يبقى عند الرجل من شيء يبنيه أو يهدمه، تراه يغدو شديد التعاسة. أما النساء – وأقصد المشغولات منهنَّ بأعمال المنزل وبالعناية بالأطفال – فأغلب الظن أنهنَّ لن يفهمن أبدًا تمام الفهم لماذا يذهب الرجال إلى المقهى ويلهون بالكوتشينة. العيش مع النفس والتأمل في النفس لا قيمة لهما.

في رواية ڤلهلم مايستر البديعة لگوته[1]، ورد ذكر “جمعية زاهدين” تحرِّم على أعضائها التفكير في المستقبل وفي الماضي. هذه القاعدة، بقدر ما يُستطاع التقيُّدُ بها، قاعدة حسنة جدًّا. ولكنْ، حتى يُستطاع التقيُّدُ بها، لا مناص للأيدي وللعيون من أن تكون مشغولة. فالإدراك والعمل هما العلاجان الحقيقيان. على العكس، إذا قعد المرء عن العمل سرعان ما يقع فريسة التخوف والتحسُّر. التفكير ضرب من اللهو ليس صحيًّا للغاية دومًا؛ فبوجه العموم، يدور المرء في مكانه من غير أن يتقدم. لذا كتب جان-جاك الكبير[2]: “امرؤ يتأمل حيوان منحط.”

تنتشلنا الضرورة من ذلك – في أغلب الأحيان. أكثرنا عنده مهنة يزاولها، وهذا حسن جدًّا. لكن ما ينقصنا هي مهن صغيرة تريحنا من الآخر. كثيرًا ما حسدتُ النساء على ممارستهنَّ حبك الصوف أو التطريز: ترى عيونهنَّ مشدودة إلى شيء واقعي تتبعه؛ ومن شأن هذا أن يجعل صور الماضي والمستقبل لا تلحُّ في الظهور إلا كاللوامع. أما في هذه الاجتماعات التي يُهدَرُ فيها الوقتُ فإن الرجال لا عمل لهم، فتراهم يطنُّون طنين الذباب في قارورة.

ساعات الأرق، إلا في حال المرض، لا يخشاها المرء كل هذه الخشية، على ما أظن، إلا لأنها تطلق العنان لمخيِّلة تعدم أغراضًا واقعية تتمعَّن فيها. يأوي الرجل إلى فراشه في العاشرة فيظل حتى انتصاف الليل يتلوَّى كالشبوط ضارعًا إلى إله النوم. وهذا الرجل بالذات، لو كان في المسرح في الساعة عينها لَتناسى وجوده كلَّ التناسي.

من شأن هذه الخواطر أن تعين على فهم الانشغالات المتنوعة التي تملأ حياة الأغنياء. إنهم يفرضون على أنفسهم ألف واجب وألف عمل ويهرعون إليها كما تهرع الفراشة إلى النار. إنهم يقومون بعشر زيارات في اليوم الواحد ويراوحون بين حفلة الموسيقى والمسرح. ذوو الدم الفائر منهم يرتمون في الصيد والحرب والأسفار المحفوفة بالمهالك. وسواهم يسرعون بالسيارة وينتظرون بفارغ الصبر فرصةً لتهشيم عظامهم بالطيارة. لا غنى لهم عن أعمال جديدة وإدراكات جديدة. إنهم يريدون أن يعيشوا في العالم، لا في أنفسهم. فكما كانت الفيلة الضخمة المنقرضة تقطم الغابات تراهم يقطمون العالم بأعينهم. وأبسطهم عقلاً يلعبون لعبة تلقِّي اللكمات العنيفة في أنوفهم وفي بطونهم؛ فذلك يعيدهم إلى الأشياء الحاضرة ويجدون فيه لذة ما بعدها لذة. ولعل الحروب هي أولاً دواء للسأم؛ بذا قد يُفسَّر لماذا أكثر الناس استعدادًا لتقبُّل الحرب – إنْ لم نقل لطلب نشوبها – هم في الغالب الذين عندهم ما يخسرونه أكثر من غيرهم. الخوف من الموت فكرة يختص بها البطَّال، وسرعان ما يمحوها عملٌ ملحٌّ، مهما كان مقدار الخطر فيه. أغلب الظن أن المعركة واحدة من الظروف التي يكون فيها التفكير في الموت أقل ما يكون. ومنه هذه المفارقة: كلما أجاد المرءُ ملءَ حياته قلَّ خوفُه من فقدانها.

29 كانون الثاني 1909


* Alain, « L’ennui », in Propos sur le bonheur (1928), Gallimard, coll. « Idées », 1964, pp. 99-101.

** لقب أستاذ الفلسفة الفرنسي إميل شارتييه (1868-1951). كاتب مقالة لامع، تفصح مقالاته القصار – وهي جنس أدبي-فلسفي تخصص فيه – عن مذهب إنساني روحي تتخلَّله السخرية الرفيعة والملاحظة الدقيقة. قال بضرورة مزاولة الفيلسوف العملَ اليدوي وبضرورة اطلاعه على العلوم حتى لا تفارق الفلسفةُ الحياةَ العملية، كما أدان الحرب بكل أشكالها. قيل إن كتاباته أنقذت العديد من القراء من اليأس.

[1] تُعَدُّ هذه الرواية نموذجًا لرواية التأهيل على الحياة؛ وهي مؤلَّفة من جزأين: سنوات تعلُّم ڤلهلم مايستر (1796) وسنوات سفر ڤلهلم مايستر (1821). (المحرِّر)

[2] هو بالطبع جان-جاك روسو (1712-1778). جدير بالذكر أن روسو هو الفيلسوف الوحيد الناطق بالفرنسية الذي يشار إليه تقليديًّا باسمه الأول فقط. (المحرِّر)