طيب المزاج*
ألان**
لو قُيِّضَ لي – عَرَضًا – أن أكتب رسالة في الأخلاق لوضعتُ المزاج الطيب في مقدمة الواجبات. لا أدري أيَّ دين شرس لقَّننا أن الحزن عظيم وجميل، وأن على الحكيم أن يتأمل الموت وهو يحفر قبره بيديه! لما كنت في العاشرة من عمري زرت دير التراپ الكبير[1]، فرأيت هذه القبور تُحفَر قليلاً كل يوم ومصلَّى الموتى حيث كان الأموات يبقون أسبوعًا ونيفًا ليعتبر بهم الأحياء. ولطالما ظلت الصور القاتمة ورائحة الجيف هذه تلاحقني. لكنهم كانوا قد غالوا في البرهان! ليس بمقدوري أن أحدِّد بالضبط – إذ إنني نسيت – في أي لحظة خرجت من الكثلكة وما هي الأسباب التي جعلتني أفعل. لكني منذ تلك اللحظة قلت لنفسي: “لا يُعقَل أن يكون ذاك هو سرُّ الحياة الحق!” كان كياني كله ينتفض على هؤلاء الرهبان البَكَّائين. وقد طلَّقت دينهم كمن يطلِّق داءً!
لكني، مع ذلك، موسوم به. كلنا موسومون. فما أسهل ما نتأوَّه، ولأهون سبب. حتى إننا، حين تجيئنا الظروف بغمٍّ حقيقي، ترانا نظن أن من واجبنا أن نُظهِرَه للعيان. وتسري بهذا الصدد أحكام زائفة تفوح منها رائحة القندلفت[2] – كأنْ يُغفَر كلُّ شيء لامرئ يجيد البكاء! كذلك يجب رؤية أي تراجيديات تمثَّل على القبور! ترى الخطيب كأنه محطَّم، يغصُّ حلقُه بالكلمات. لو رآنا أحد القدماء لأخذته الشفقة علينا ولقال في نفسه: “عجبًا؟! ليس المتكلم إذن البتة بمعزٍّ؛ ما هو البتة إذن بمرشد للحياة. ما هو إلا ممثل تراجيدي، أستاذ في الحزن والموت!” وماذا تراه يكون رأيه في نشيد يوم الغضب[3] الوحشي؟! أحسب أنه سيصنِّفه في باب التراجيديا، قائلاً: “ذلك أنني، حين لا أكون مغتمًّا، أجيز لنفسي التفرج على الأهواء المُكْرِبة؛ فعند ذاك تكون لي بمثابة عِبْرة جيدة. لكني إذا ما ابتُليت بغمٍّ حقيقي فليس من واجبي حينذاك إلا أن أبرهن عن رجولتي فأعانق الحياة بقوة؛ وأن أستجمع إرادتي وحياتي على البلاء، كالمحارب يواجه العدو؛ وأن أذكر الموتى بمودة وفرح، بقدر ما أستطيع. أما هم، فشأن قنوطهم أن يُخجِل الموتى، لو كان الموتى يرونهم!”
أجل، يبقى علينا، بعد أن نستبعد أكاذيب الكهنة، أن نستقبل الحياة في نبل، فلا نمزِّق أنفسنا – والآخرين بواسطة العدوى – بخُطَب تراجيدية عصماء. والأفضل كثيرًا أيضًا – لأن الأشياء كلها مترابطة –، إذ نتصدى لأوصاب الحياة الصغيرة، ألا نحكيها، ولا نفرشها، ولا نضخِّمها البتة. الطيبة مع الآخرين ومع النفس، مساعدتهم على الحياة، مساعدة النفس على الحياة – ذلكم هو الإحسان الحق. فالطيبة فرح. المحبة فرح.
10 تشرين الأول 1909
* Alain, « Bonne humeur », in Propos sur le bonheur (1928), Gallimard, coll. « Idées », 1964, pp. 184-185.
** لقب أستاذ الفلسفة الفرنسي إميل شارتييه (1868-1951). كاتب مقالة لامع، تفصح مقالاته القصار – وهي جنس أدبي-فلسفي برع فيه – عن مذهب إنساني روحي تتخلَّله السخرية الرفيعة والملاحظة الدقيقة. قال بضرورة مزاولة الفيلسوف العملَ اليدوي وبضرورة اطِّلاعه على العلوم حتى لا تفارق الفلسفةُ الحياةَ العملية، كما أدان الحرب بكل أشكالها. قيل إن مقالاته في السعادة أنقذت العديد من القراء من اليأس.
[1] سيدة التراپ Notre-Dame de la Trappe: دير لرهبان سيتو، تأسس سنة 1140 وأصلحه الأب أرمان دُه رانسيه (1664)؛ هو أكبر أديرة الأخوية التشسترتشية، المصلَحة طبقًا لقواعد الرهبانية المتشدِّدة والمعروفة باسم التراپ la Trappe (يشير الاسم، الذي يعني أصلاً “حفرة”، إلى موضع كان الصيادون ينصبون فيه فخاخًا يقع فيها الحيوان بمجرد أن يدوس عليها). (المحرِّر)
[2] مستخدَم مكلَّف خدمة الكنيسة وصون أدوات شعائر العبادة؛ كناية عن الدِّين في وجهه المتزمِّت، المتجهِّم. (المحرِّر)
[3] “يوم الغضب” Dies iræ نشيد جنائزي باللاتينية ظهر للمرة الأولى في ڤنيسيا سنة 1250، وموضوعه أهوال يوم القيامة؛ أوَّله: Dies iræ! Dies illa, solvet sæclum in favilla (“أيا يوم الغضب! يوم النقمة، يومًا يُذرى فيه العالمُ بأسره رمادًا”). (المحرِّر)