كل مقالات ديمتري أڤييرينوس

شاعران – ألان

شـاعـران*

ألان

ألان**

 

إنها لَصداقةٌ جميلة صداقةُ گوته[1] وشيلِّر[2]، تلك التي نراها في مراسلاتهما. كلٌّ منهما يسعف الآخر بالعون الوحيد الذي يمكن لفطرة ما أن تنتظره من فطرة أخرى، ألا وهو أن تُقِرَّها الفطرةُ الأخرى على ما هي عليه ولا تطلب منها إلا أن تبقى هي هي. قبولك الموجودات كما هي لا فضل فيه، ولا بدَّ للأمر دومًا من أن يؤول إلى هذا القبول؛ أما أن تريدها كما هي، فهي ذي المحبة الحق. هذان الرجلان إذن – وكلٌّ منهما يدفع إلى الخارج بطبيعته المستكشِفة – اجتمعا على الأقل على رأي مفاده أن الفوارق جميلة، وأن القيم لا تتدرَّج من الوردة إلى الحصان، بل من الوردة إلى الوردة الجميلة، ومن الحصان إلى الحصان الجميل. يقال فعلاً إنه لا يجوز الاختلاف على الأذواق، وذاك صحيح إذا كان الواحد يفضِّل الوردة بينما يفضِّل الثاني الحصان؛ لكن النقاش حول ماهية الوردة الجميلة أو الحصان الجميل جائز لأن التوافق عليها ممكن. بيد أن هذا المثال لا يزال مثالاً مجردًا، على كونه يسير في الاتجاه الصحيح، لأن موجودين كهذين [الوردة والحصان] لا يزالان رهينَي النوع أو رهينَين لنا ولحاجاتنا. ما من أحد يدافع عن الموسيقى ولا عن الرسم؛ لكن النقاش حول اللوحة الأصيلة والنسخة المزوَّرة مفيد: إذ به تستبين في الأولى علاماتُ الفطرة الحرَّة والناشئة من عمقها هي، وفي الثانية نُدوبُ العبد والنشوء بواسطة الفكرة الخارجية. لا بدَّ أن كلا شاعرينا شعر بهذه الفوارق في رأس ريشته. وما يستحق الإعجاب هو أنهما، وهما يتحاجَّان ويتحادثان غالبًا في الكمال وفي المثال، لم يضيِّع أيٌّ منهما قط، ولا لحظة واحدة، عبقريتهما الخاصة. صحيح أن كلاً منهما ينصح للآخر بما معناه: “لو كنت مكانك لفعلت كذا”، لكن كلاً منهما، في الوقت نفسه، يصرِّح لَبِقًا بأن ما ينصح به للآخر لا يصلح للآخر. والآخر، جوابًا، يردُّ النصيحة بقوة إلى الناصح، عازمًا على البحث بسُبُله الخاصة.

Continue reading

اليأس – ألان

في اليأس*

ألان

ألان**

 

قال أحدهم: “الماكر لا يقتل نفسه لسبب بهذه التفاهة.” إنها ليست أول مرة، ولا آخر مرة، يظن فيها امرؤ شريف أنه مجلَّل بالعار، فينتحر، فيبكيه أولئك بعينهم الذين كان يظنُّهم يحتقرونه. تراني لا أزال أبحث، بخصوص هذه الفاجعة التي سوف تبقى ماثلة طويلاً في ذاكرتنا، عما يجعل امرءًا يريد أن يكون بارًّا وعاقلاً يبدو غالبًا كأنه لم يروِّض بعض الأهواء إلا لتهاجمه أهواءٌ أخرى وتصرعه؛ ولا أزال أبحث كذلك عن الخواطر التي يمكن له بها أن يكافح اليأس.

Continue reading

السعادة والفضيلة – ألان

السعادة والفضيلة*

ألان

ألان**

 

هناك نوع من السعادة لا يتشبَّث بنا بأكثر مما يتشبَّث المعطف. كذا هي سعادة الورث أو الربح في اليانصيب؛ وكذلك سعادة المجد، لأنها منوطة بلقاءات. أما السعادة المنوطة بمقدراتنا الخاصة فهي، على العكس، مدمجة فينا، ونحن نصطبغ بها بأحسن مما يصطبغ بالقرمز الصوفُ. حكيم الأزمنة القديمة، إذ نجا من الغرق ووطئ البر عاريًا كما ولدته أمُّه، قال: “أحمل ثروتي كلَّها معي.” كذا كان ڤاگنر يحمل موسيقاه، وكان ميكلانجلو يحمل جميع الصور السامية التي كان بوسعه رسمها. والملاكم لديه، هو الآخر، قبضتاه وساقاه وثمرة أعماله كلها، خلافًا للفائز بإكليل أو بمال. غير أن ثمة وسائل عدة لكسب المال، ومَن يجيد “جني المال”، كما يقال، لا يزال غنيًّا بذاته في اللحظة التي يخسر فيها كلَّ شيء.

Continue reading

مستقبلنا – ألان

مستقبلنا*

ألان

ألان**

 

مادمنا لا نحسن فهم ترابُط الأشياء كلِّها وتسلسل الأسباب والنتائج فالمستقبل يعيينا. ترى حلمًا أو كلامًا ينطق به ساحر يقتل آمالنا؛ النذائر تأتينا من كلِّ حدب وصوب. هي فكرة لاهوتية. كلٌّ منَّا يعرف حكاية ذلك الشاعر الذي تنبَّأ له عرَّاف بأنه سيموت من جراء سقوط بيت على رأسه فصار يبيت في العراء؛ لكن هذا لم يثنِ الآلهة عن مرادها، فألقى نسرٌ بسلحفاة على رأسه الأصلع ظنًّا منه أنه حجر! كما تُروى حكايةٌ عن ابن بعض الملوك كُتِبَ عليه، حسبما نطق به العرَّاف، أن يُهلِكَه أسد، فاستُبقي في الدار مع النساء؛ لكنه ما لبث أن اغتاظ من ستارة مطرَّزة تمثِّل أسدًا، فسحج قبضته بمسمار صدئ ثم مات من الغنغرينة!

Continue reading

الحتمية – ألان

الحـتـمـيَّة*

ألان

ألان**

 

نحن لا نعرف أن نبدأ شيئًا، أقول، ولا حتى لمدِّ ذراع: فما من أحد “يبدأ” بإصدار أمر إلى الأعصاب أو إلى العضلات، لكن الحركة تبدأ من تلقاء ذاتها؛ وشأننا نحن هو أن نتابعها ونتمَّها على أحسن ما يكون. وهكذا فنحن، وإنْ كنَّا لا نقرِّر أبدًا، ترانا دومًا نسوق، شأننا شأن سائق العربة يلجم الحصان النزق. لكن الحوذي لا يستطيع أن يلجم إلا الحصان الذي ينزق؛ وذاك هو ما يسمَّى انطلاقًا: يستفيق الحصان وينفر، والحوذي يوجِّه هذه الهَبَّة. بالمثل، إذا كانت السفينة عديمة الاندفاع فهي لا تذعن للدفة بتاتًا. قصارى القول إنه لا بدَّ من الانطلاق كيفما اتَّفق؛ ويحين من ثَمَّ وقتُ التساؤل عن الوجهة التي نقصد.

Continue reading

البيئة والنزاع – ج. كريشنامورتي

البيئة والنزاع*

ج. كريشنامورتي

ج. كريشنامورتي

 

يبدو لي هامًّا فهمُ أن النزاع، من أيِّ نوع كان، لا يثمر تفكيرًا مبدعًا. فإلى أن نفهم النزاع وطبيعة النزاع، وما هو الشيء الذي يتنازع المرءُ معه، فإن مجرَّد التصارع مع مشكلة، أو مع خلفية أو بيئة بعينها، لا جدوى منه إطلاقًا. فكما أن جميع الحروب تسبِّب التدهور وتثمر حتمًا مزيدًا من الحروب، مزيدًا من البؤس، كذلك تقود مصارعة النزاع هي الأخرى إلى مزيد من البلبلة. بذا فإن النزاع ضمن النفس، مُسقَطًا على الخارج، يسبب البلبلة في العالم. لذا من الضروري – أليس كذلك؟ – فهمُ النزاع ورؤيةُ أن النزاع، من أيِّ نوع كان، ليس مثمرًا لتفكير مبدع، لكائنات إنسانية سليمة. ومع ذلك، فإن حياتنا برمَّتها مهدورة في الصراع، وترانا نظن أن الصراع جزء ضروري من الوجود. هناك نزاع ضمن النفس ومع البيئة – البيئة بوصفها المجتمع، الذي بدوره هو علاقتنا مع الناس ومع الأشياء ومع الأفكار. هذا الصراع يُعتبَر حتميًّا، وترانا نظن أن الصراع لا غنى عنه لسيرورة الوجود. والآن، هل الأمر كذلك فعلاً؟ وهل ثمة طريقة حياة تستغني عن الصراع وتوجد فيها إمكانية الفهم من دون النزاع المعتاد؟ لا أدري إنْ كنت لحظت أنك كلما أمعنت في مصارعة مشكلة نفسانية، تراك تزداد بلبلة وتَعْلَق فيها أكثر، وأن الفهم لا يأتي إلا حين يكفُّ الصراع، حين تتوقف سيرورة الفكر برمَّتها. وإذن، فعلينا أن نتحرَّى عما إذا كان النزاع لا غنى عنه، وعما إذا كان النزاع مثمرًا.

Continue reading

المشكلات والزمن – ج. كريشنامورتي

المشكلات والزمن*

ج. كريشنامورتي 

ج. كريشنامورتي

 

بحسب أحدث مكتشفات الأنثروپولوجيين، عاش الإنسان على هذه الأرض، على ما يبدو، طوال حوالى مليونين من السنين. وقد ترك الإنسان في الكهوف، طوال حوالى سبعة عشر ألف سنة، سجلات عن الكفاح، عن الصراع، عن أسى الوجود الذي لا ينتهي – الصراع بين الخير والشر، بين الوحشية والشيء الذي ما انفك يطلبه أبدًا: الحب. وعلى ما يبدو، لم يستطع الإنسان حلَّ مشكلاته – لا مشكلات الرياضيات، لا المشكلات العلمية أو الهندسية، بل المشكلات البشرية للعلاقة: كيف يحيا في هذا العالم حياة مُسالِمة، كيف يكون على صلة حميمة مع الطبيعة ويرى جمال طائر على غصن أجرد.

Continue reading