كل مقالات ديمتري أڤييرينوس

تحت المطر – ألان

تحت المطر*

ألان

ألان**

 

هناك، على كل حال، من الأوجاع الواقعية ما يكفي؛ لكن ذلك لا يحُول دون إضافة الناس المزيدَ عليها عبر نوع من اجترار المخيِّلة. تراك تصادف كل يوم رجلاً واحدًا على الأقل يشتكي من المهنة التي يمتهنها، فيبدو لك في كلامه دومًا ما يكفي من التماسك، لأن ثمة ما يُعاب في كل شيء، وما من شيء كامل.

أنت، يا ذا المدرِّس، عليك، كما تقول، أن تعلِّم فتية شرسين لا يفقهون شيئًا ولا يكترثون بشيء؛ وأنت، أيُّها المهندس، غائص في بحر من الأوراق؛ وأنت، أيُّها المحامي، تترافع أمام قضاة يهضمون طعامهم غافين بدلاً من أن يستمعوا إليك. أغلب الظن أن ما تقوله صحيح، وأنا آخذه على محمل الصدق؛ ففي هذه الأمور دومًا ما يكفي من الصحة كي يجوز قولها. وإذا كنت، فوق ذلك، تعاني معدة معتلَّة، أو كان حذاؤك يسرِّب الماء، فأنا أتفهَّمك كل التفهم؛ حسب ذلك مدعاةً لِلَعْن الحياة، والبشر، وحتى الله، إنْ كنت تؤمن بوجوده.

Continue reading

اطلبوا الملكوت… – ديمتري أڤييرينوس

اطلبوا الملكوت…

ديمتري أڤييرينوس 

ديمتري أڤييرينوس

 

لا تكنزوا لأنفسكم كنوزًا في الأرض، حيث يُفسِد السوس
والعث وينقب السارقون فيسرقون، بل اكنزوا لأنفسكم
كنوزًا في السماء، حيث لا يُفسِد السوس والعث ولا
ينقب السارقون فيسرقوا. فحيث يكون كنزك يكون قلبك.
إنجيل متى 6: 19-21

ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلَّه وخسر نفسه؟
إنجيل متى 16: 26

 

نتذكر صديقًا علَّق ذات يوم على زيارته “جنة العريف”، أحد متنزَّهات قصر الحمراء بغرناطة، بقوله: “أحسست بأني في الجنة فعلاً!” بيد أن السماء والأرض كلتيهما فينا. حين يقول أحدهم مجازًا: “أنا في الجنة!” أو “صوت فلانة ملائكي!” إلخ، فهو يعني بذلك أن ما يختبره من الروعة بحيث يُشعِرُه بنشوة غير اعتيادية. هذه الخبرة، في الواقع، إنما هي حال وعي، لأن جميع المشاعر الذاتية، سواء كانت فرحًا أو سلامًا، خوفًا أو عذابًا، منطلقها الوعي ومستقرُّها الوعي. لماذا يوصف حقلٌ قانٍ من شقائق النعمان في الربيع بأنه “سماوي”، مع أنه مزهر على الأرض بكل تأكيد، إذا لم تكن الخاصية “السماوية” فيه هي حال الوعي لدى رؤيته؟ ومنه، فإن ما يُسمَّى “الجنة” إنما هو حال وجودٍ باطنية، وليس موقعًا على مرتبة وجودية أخرى أو مكانًا آخر بعينه.

Continue reading

أنتوني دو ملو، أغنية الطائر – ديمتري أڤييرينوس

أغـنـيَّـة الطَّــائـر

 

ديمتري أڤييرينوس

 

يُعَدُّ أنتوني دو مِلُّو، المتوفى سنة 1987 عن عمر يناهز الخامسة والخمسين، واحدًا من “أهل التمكين” في الخبرة الروحية. ومؤلَّفاته المنشورة بلغات عديدة، ولاسيما كتابه الأشهر سادهانا: طريق إلى الله، باتت تحظى بإقبال متعاظم عليها في العالم بأسره – لا لأن صاحبها من القلوب الفسيحة التي استطاعت أن تحطِّم الحواجز القومية والدينية والمذهبية كافة وتعانق الإنسانية جمعاء وحسب، بل ولأنه عقل عميق الأصالة أيضًا، أفلح في التأليف الباطني بين أغصان شجرة التراث الروحي الإنساني كما لم تفلح فيه غير قلة سواه، وإنْ يكن قد سلك إلى ذلك أبسط الطرق وأقربها إلى القلب والوجدان.

أنتوني دو ملو

Continue reading

أفلاطون طبيبًا – ألان

أفلاطون طبيبًا*

ألان

ألان**

 

كان ترويض البدن والموسيقى وسيلتَي أفلاطون الطبيب الكبريين. والرياضة البدنية تعني اشتغال العضلات المعتدل بنفسها بغية مطِّها وتدليكها داخليًّا بحسب حالها. تشبه العضلات الموجوعة إسفنجًا محشوًّا بالغبار؛ فتنظَّف العضلةُ كما ينظَّف الإسفنج، وذلك بحقنها بالسائل والضغط عليها أكثر من مرة. لقد قال أهل الفسيولوجيا تكرارًا بأن القلب عضلة جوفاء؛ ولكنْ، بما أن العضلات تتضمن شبكة غنية من الأوعية الدموية، تضيق وتتوسع على التناوب مع الانقباض والانبساط، يصح قولنا أيضًا بأن كل عضلة أشبه ما تكون بقلب إسفنجي يمكن لحركاته – وهي حيلة نفيسة – أن تُضبَط إراديًّا. ومنه نرى أن الذين ليسوا بتاتًا سادة عضلاتهم بالرياضة البدنية – هؤلاء الذين نسمِّيهم خجولين – يحسُّون في نفسهم بموجات دم هوجاء تتدفق نحو الأجزاء الرخوة من البدن، ما يجعل وجهَهم يحمرُّ تارةً دونما سبب، ومخَّهم يغزوه تارةً أخرى دمٌ عَجول، فتصيبهم نوبة هلع قصيرة، وأحشاءَهم طورًا كأنها غُمِرتْ، وهي وعكة معروفة جيدًا – وهذه عوارض يجدي معها قطعًا تمرينُ العضلات تمرينًا مضبوطًا. وإننا هاهنا نعاين ظهور الموسيقى على هيئة أستاذ الرقص الذي يضبط بكمنجته الرديئة الصغيرة دورانَ الدم في الأحشاء على أحسن ما يرام. وبذلك فإن الرقص يشفي من الخجل، كما هو معلوم، لكنه يفرِّج عن القلب أيضًا بطريقة أخرى، وذلك بمطِّ العضلات مطًّا معتدلاً بكل هدوء.

Continue reading

الظواهر والحقيقة – ديمتري أڤييرينوس

الظَّواهر والحقيقة

ديمتري أڤييرينوس

ديمتري أڤييرينوس

 

مَن خَبِرَ العالمَ بنفسه، غير مبالٍ برأي سواه، لا يعلِّم إلا حقيقتين:
حقيقة الباطن وحقيقة الظواهر – ولا توجد حقيقة ثالثة.
سوترا بوذي

 

الإپستمولوجيا (من اليونانية: epistêmê، “علم”، و logos، “عقل”) فرع أساس من فروع الفلسفة مختص بدراسة تاريخ المعرفة ومبادئها ومناهجها؛ إنها، إذن، تتناول نظرية المعرفة والوسائل إليها. لكن أغلب الناس لا يفقهون أهميتها لأنهم ينظرون إلى المسألة برمَّتها من زاوية مغالية في التبسيط؛ فالمعرفة الحقيقية – وهي الحكمة – ليست في واقع الأمر ميسورة المنال، بعكس ما يظنون.

Continue reading

رواقية – ألان

رواقـيَّـة*

ألان

ألان**

 

ربما لم يُحسِن الناسُ الاستفادةَ من الرواقيين ذائعي الصيت، وكأنَّ هؤلاء لا يعلِّموننا إلا مقاومة الطاغوت والاستخفاف بالعذاب. أما أنا فيستبين لي أكثرُ من استعمالٍ لحكمتهم الباسلة – ببساطة، ضد المطر والعاصفة. كان تفكُّرهم يقوم، كما هو معلوم، على بادرة للانفصال عن الشعور الأليم، والنظر فيه كموضوع، ومخاطبته: “أنتَ من الأشياء، لستَ منِّي.” وعلى العكس، مَن لا يجيدون بتاتًا فنَّ الحياة حياةَ الملوك على بساط حقير يتركون العاصفة تجتاح دواخلهم ويقولون طواعية: “أحسُّ بالعاصفة قادمةً من بعيد، وأنا نافد الصبر ومرهَق في آنٍ معًا… فارعدي، إذن، يا سماء!” إن هذا لمن قبيل التشبُّه بحياة الحيوان، مع الفكر زائدًا. إذ إن الحيوان، على ما يبدو، تكيِّفه برمَّته العاصفةُ القادمة، مثلما أن النبتة تنحني للشمس الحارقة وتنتصب في الظل؛ لكن الحيوان لا يعرف عن الأمر الشيء الكثير، مثلما أننا في النوم الخفيف لا نعرف إنْ كنَّا مبتهجين أم مكتئبين. تصلح هذه الحال من الخَدَر للإنسان أيضًا وتريحه دومًا، حتى في غمرة أشد أنواع المشقة، شريطة أن يسترخي التعيس كل الاسترخاء – وأعني هذا حرفيًّا: على جميع الجوارح أن تكون حسنة الاتِّكاء، وعلى جميع العضلات أن ترتخي؛ فثمة فنٌّ في التكوُّم المريح، هو ضرب من التدليك من الداخل، وهو نقيض التشنج، علَّة الغضب والأرق والجزع. فللَّذين يعجزون عن الخلود إلى النوم أقول بطيب خاطر: “تمثَّلوا بالقط النافق!”

Continue reading

"أين أنت؟" – عدين شطاينزلتس

“أين أنت؟”: البحث عن الذات*

عدين شطاينزلتس

عدين شطاينزلتس**

 

هناك سؤال لا ينفك المرء يطرحه طوال حياته في صور عديدة: “مَن أنا؟” هذا البحث عن الذات يبدؤه المرء مع بارقة الوعي الأولى – عند الولادة – ويواصله حتى ساعة مماته. من الممكن سوقُه، على حدٍّ سواء، خارج جميع المقولات العقلية أو بالاستعانة بأدقِّ تأملات الفكر. من الممكن القيام به على نحوٍ غير موعيٍّ بتاتًا مثلما قد يكون القضية المركزية لتفكُّر فاعل. مهما يكن من أمر، لا يقدر أحد أن يتهرب حقًّا من هذا السؤال تهربًّا تامًّا: “مَن أنا؟ من أين أتيت؟ إلى أين أذهب؟ لماذا يتعيَّن عليَّ أن أتخذ مثل هذا المسار بالضبط؟”

Continue reading