أرشيف التصنيف: فلسفيات

تحت المطر – ألان

تحت المطر*

ألان

ألان**

 

هناك، على كل حال، من الأوجاع الواقعية ما يكفي؛ لكن ذلك لا يحُول دون إضافة الناس المزيدَ عليها عبر نوع من اجترار المخيِّلة. تراك تصادف كل يوم رجلاً واحدًا على الأقل يشتكي من المهنة التي يمتهنها، فيبدو لك في كلامه دومًا ما يكفي من التماسك، لأن ثمة ما يُعاب في كل شيء، وما من شيء كامل.

أنت، يا ذا المدرِّس، عليك، كما تقول، أن تعلِّم فتية شرسين لا يفقهون شيئًا ولا يكترثون بشيء؛ وأنت، أيُّها المهندس، غائص في بحر من الأوراق؛ وأنت، أيُّها المحامي، تترافع أمام قضاة يهضمون طعامهم غافين بدلاً من أن يستمعوا إليك. أغلب الظن أن ما تقوله صحيح، وأنا آخذه على محمل الصدق؛ ففي هذه الأمور دومًا ما يكفي من الصحة كي يجوز قولها. وإذا كنت، فوق ذلك، تعاني معدة معتلَّة، أو كان حذاؤك يسرِّب الماء، فأنا أتفهَّمك كل التفهم؛ حسب ذلك مدعاةً لِلَعْن الحياة، والبشر، وحتى الله، إنْ كنت تؤمن بوجوده.

Continue reading

أفلاطون طبيبًا – ألان

أفلاطون طبيبًا*

ألان

ألان**

 

كان ترويض البدن والموسيقى وسيلتَي أفلاطون الطبيب الكبريين. والرياضة البدنية تعني اشتغال العضلات المعتدل بنفسها بغية مطِّها وتدليكها داخليًّا بحسب حالها. تشبه العضلات الموجوعة إسفنجًا محشوًّا بالغبار؛ فتنظَّف العضلةُ كما ينظَّف الإسفنج، وذلك بحقنها بالسائل والضغط عليها أكثر من مرة. لقد قال أهل الفسيولوجيا تكرارًا بأن القلب عضلة جوفاء؛ ولكنْ، بما أن العضلات تتضمن شبكة غنية من الأوعية الدموية، تضيق وتتوسع على التناوب مع الانقباض والانبساط، يصح قولنا أيضًا بأن كل عضلة أشبه ما تكون بقلب إسفنجي يمكن لحركاته – وهي حيلة نفيسة – أن تُضبَط إراديًّا. ومنه نرى أن الذين ليسوا بتاتًا سادة عضلاتهم بالرياضة البدنية – هؤلاء الذين نسمِّيهم خجولين – يحسُّون في نفسهم بموجات دم هوجاء تتدفق نحو الأجزاء الرخوة من البدن، ما يجعل وجهَهم يحمرُّ تارةً دونما سبب، ومخَّهم يغزوه تارةً أخرى دمٌ عَجول، فتصيبهم نوبة هلع قصيرة، وأحشاءَهم طورًا كأنها غُمِرتْ، وهي وعكة معروفة جيدًا – وهذه عوارض يجدي معها قطعًا تمرينُ العضلات تمرينًا مضبوطًا. وإننا هاهنا نعاين ظهور الموسيقى على هيئة أستاذ الرقص الذي يضبط بكمنجته الرديئة الصغيرة دورانَ الدم في الأحشاء على أحسن ما يرام. وبذلك فإن الرقص يشفي من الخجل، كما هو معلوم، لكنه يفرِّج عن القلب أيضًا بطريقة أخرى، وذلك بمطِّ العضلات مطًّا معتدلاً بكل هدوء.

Continue reading

الظواهر والحقيقة – ديمتري أڤييرينوس

الظَّواهر والحقيقة

ديمتري أڤييرينوس

ديمتري أڤييرينوس

 

مَن خَبِرَ العالمَ بنفسه، غير مبالٍ برأي سواه، لا يعلِّم إلا حقيقتين:
حقيقة الباطن وحقيقة الظواهر – ولا توجد حقيقة ثالثة.
سوترا بوذي

 

الإپستمولوجيا (من اليونانية: epistêmê، “علم”، و logos، “عقل”) فرع أساس من فروع الفلسفة مختص بدراسة تاريخ المعرفة ومبادئها ومناهجها؛ إنها، إذن، تتناول نظرية المعرفة والوسائل إليها. لكن أغلب الناس لا يفقهون أهميتها لأنهم ينظرون إلى المسألة برمَّتها من زاوية مغالية في التبسيط؛ فالمعرفة الحقيقية – وهي الحكمة – ليست في واقع الأمر ميسورة المنال، بعكس ما يظنون.

Continue reading

رواقية – ألان

رواقـيَّـة*

ألان

ألان**

 

ربما لم يُحسِن الناسُ الاستفادةَ من الرواقيين ذائعي الصيت، وكأنَّ هؤلاء لا يعلِّموننا إلا مقاومة الطاغوت والاستخفاف بالعذاب. أما أنا فيستبين لي أكثرُ من استعمالٍ لحكمتهم الباسلة – ببساطة، ضد المطر والعاصفة. كان تفكُّرهم يقوم، كما هو معلوم، على بادرة للانفصال عن الشعور الأليم، والنظر فيه كموضوع، ومخاطبته: “أنتَ من الأشياء، لستَ منِّي.” وعلى العكس، مَن لا يجيدون بتاتًا فنَّ الحياة حياةَ الملوك على بساط حقير يتركون العاصفة تجتاح دواخلهم ويقولون طواعية: “أحسُّ بالعاصفة قادمةً من بعيد، وأنا نافد الصبر ومرهَق في آنٍ معًا… فارعدي، إذن، يا سماء!” إن هذا لمن قبيل التشبُّه بحياة الحيوان، مع الفكر زائدًا. إذ إن الحيوان، على ما يبدو، تكيِّفه برمَّته العاصفةُ القادمة، مثلما أن النبتة تنحني للشمس الحارقة وتنتصب في الظل؛ لكن الحيوان لا يعرف عن الأمر الشيء الكثير، مثلما أننا في النوم الخفيف لا نعرف إنْ كنَّا مبتهجين أم مكتئبين. تصلح هذه الحال من الخَدَر للإنسان أيضًا وتريحه دومًا، حتى في غمرة أشد أنواع المشقة، شريطة أن يسترخي التعيس كل الاسترخاء – وأعني هذا حرفيًّا: على جميع الجوارح أن تكون حسنة الاتِّكاء، وعلى جميع العضلات أن ترتخي؛ فثمة فنٌّ في التكوُّم المريح، هو ضرب من التدليك من الداخل، وهو نقيض التشنج، علَّة الغضب والأرق والجزع. فللَّذين يعجزون عن الخلود إلى النوم أقول بطيب خاطر: “تمثَّلوا بالقط النافق!”

Continue reading

"أين أنت؟" – عدين شطاينزلتس

“أين أنت؟”: البحث عن الذات*

عدين شطاينزلتس

عدين شطاينزلتس**

 

هناك سؤال لا ينفك المرء يطرحه طوال حياته في صور عديدة: “مَن أنا؟” هذا البحث عن الذات يبدؤه المرء مع بارقة الوعي الأولى – عند الولادة – ويواصله حتى ساعة مماته. من الممكن سوقُه، على حدٍّ سواء، خارج جميع المقولات العقلية أو بالاستعانة بأدقِّ تأملات الفكر. من الممكن القيام به على نحوٍ غير موعيٍّ بتاتًا مثلما قد يكون القضية المركزية لتفكُّر فاعل. مهما يكن من أمر، لا يقدر أحد أن يتهرب حقًّا من هذا السؤال تهربًّا تامًّا: “مَن أنا؟ من أين أتيت؟ إلى أين أذهب؟ لماذا يتعيَّن عليَّ أن أتخذ مثل هذا المسار بالضبط؟”

Continue reading

إپكتيتوس – ألان

إپكتيتوس*

ألان

ألان**

“ادحض الرأي الباطل، تقضِ على الشر” – هكذا يتكلم إپكتيتوس[1]. والنصيحة تصلح لِمَن كان يتوقع نيل الشريط الأحمر[2]، فيمتنع عن النوم مشغول البال بأنه لم ينله. هذا غلوٌّ في تقدير سطوة قطعة شريط؛ حسب المرء أن يفكر فيها كما هي – قليل من حرير، قليل من صباغ أحمر – فلا يكدِّره الأمر. ويُكثِر إپكتيتوس من إيراد أمثلة قاسية؛ فهذا الصديق الصالح يصطحبنا من كتفنا قائلاً: “ها أنت ذا مغتمٌّ لأنك لم تقوَ على احتلال هذه المكانة المرغوبة في السيرك[3] التي تظن أنك حقيق بها. تعال إذن، فالسيرك خالٍ الآن؛ تعال والمسْ هذا الحجر الرائع؛ بوسعك حتى أن تجلس عليه.” الدواء هو هو إيَّاه لصدِّ جميع المخاوف وجميع المشاعر المستبدَّة: يجب الذهاب إلى الشيء رأسًا ورؤية ما هو.

Continue reading

انظر إلى المدى البعيد – ألان

انظرْ إلى المدى البعيد*

ألان

ألان**

 

السوداوي، ليس عندي غير شيء واحد أقوله له: “انظرْ إلى المدى البعيد.” فالسوداوي يكاد دومًا أن يكون امرءًا يغالي في القراءة. العين البشرية لم تُصنَع لمثل هذه المسافة بتاتًا؛ فالأمداء البعيدة هي ما ترتاح إليه. تراك حين تعاين النجوم أو أفق البحر فإن عينك تكون مستريحة تمامًا؛ وإذا كانت العين مستريحة كان الرأس حرًّا والمشية أكثر رسوخًا؛ كل شيء يستريح ويلين حتى الأحشاء. لكنْ لا تحاولنَّ البتة أن تليِّن نفسك متعمِّدًا؛ فالإرادة فيك، حين تطبِّقها على نفسك، تشدُّ كل شيء بالوَرْب وينتهي بها الأمرُ إلى خنقك. لا تفكرْ في نفسك؛ انظرْ إلى المدى البعيد.

Continue reading