أنت العالم – ج. كريشنامورتي

أنـت العـالـم*

ج. كريشنامورتي

 

سائل: كيف يمكن لفكرة “أنت العالم وأنت مسؤول كليًّا عن النوع البشري بأسره” أن تُبرَّر على أساس عقلاني، موضوعي، عاقل؟

كريشنامورتي: لست واثقًا من إمكان عَقْلَنَتها على أساس عاقل، موضوعي. لكننا سنتفحَّصها أولاً قبل أن نقرِّر عدم إمكان ذلك!

بادئ ذي بدء، الأرض التي نعيش عليها هي أرضنا – صحيح؟ إنها ليست الأرض البريطانية، ولا الأرض الفرنسية، أو الألمانية، الروسية، الهندية، الصينية، بل هي أرضنا التي نحيا عليها جميعًا. هذا واقع. لكن الفكر جزَّأها عرقيًّا، جغرافيًّا، ثقافيًّا، اقتصاديًّا. وتلك التجزئة تسبِّب الخراب في العالم – بكل وضوح. ذاك أمر لا سبيل إلى إنكاره؛ ذاك التصريح تصريح عقلاني، موضوعي، عاقل. إنها أرضنا التي نحيا عليها جميعًا، لكننا جزَّأناها – لأسباب أمنية، لأسباب وهمية مختلفة، وطنية، سياسية – الأمر الذي يسبِّب اندلاع الحرب لا محالة.

قلنا أيضًا بأن الوعي البشري كله متشابه. ترانا جميعًا، مهما كان جزء الأرض الذي نعيش عليه، نكابد الكثير من العذاب، الألم، القلق، الريبة، الخوف؛ وترانا في بعض الأحيان، أو ربما أحيانًا كثيرة، نعرف اللذة. هذه هي الأرضية المشتركة التي يقف عليها البشر أجمعون – صحيح؟ هذا واقع لا سبيل إلى دحضه. قد نحاول أن نتفاداه، قد نحاول أن نتجاهله بقولنا إنه غير موجود، [كأنْ أقول] إنني “فرد”، إلى ما هنالك؛ لكنك حين تنظر إليه نظرة موضوعية، غير شخصية، ستجد أن وعينا يماثل – نفسيًّا – وعي البشر أجمعين. قد تكون طويل القامة، قد تكون أشقر البشرة، قد تكون بني الشعر؛ وقد أكون أسود البشرة، أو أبيض، أو قرنفلي اللون، أو ما شاكل – لكننا، داخليًّا، نعاني جميعًا معاناة فظيعة. ترانا جميعًا نعاني شعورًا بوحشة قانطة. قد يكون عندك أبناء، زوج، أسرة، لكنك عندما تكون وحدك يستبدُّ بك الشعور بأن لا علاقة لك بأي شيء؛ تراك تشعر بأنك معزول كليًّا. أغلبنا عنده ذلك الشعور. هذه هي الأرضية المشتركة بين البشر أجمعين. ومهما يحدث في حقل هذا الوعي فنحن مسؤولون. أي أنني، إنْ كنت عنيفًا، فأنا أضيف مزيدًا من العنف إلى ذلك الوعي المشترك بيننا جميعًا؛ أما إذا لم أكن عنيفًا فلا أضيف إليه، بل أجلب عاملاً كلِّيَّ الجدة إلى ذلك الوعي.

ومنه، فأنا مسؤول مسؤولية عميقة: إما أساهم في ذلك العنف، في تلك البلبلة، في تلك التجزئة الرهيبة، وإما – إذ أُقرُّ عميقًا في قلبي، في دمي، في أعماق كياني، أنني سائر العالم، أنني النوع البشري، أنني العالم، أن العالم ليس منفصلاً عني – أصبح، إذ ذاك، كلِّي المسؤولية. هذا واضح كل الوضوح! هذا عقلاني، موضوعي، عاقل. [الموقف] الآخر هو الجنون بعينه: أن يسمِّي المرءُ نفسَه هندوسيًّا، بوذيًّا، مسيحيًّا، إلى آخر ما هنالك من تسميات – فهذه مجرد لُصاقات!

حين يختبر المرء ذاك الشعور، ذاك الواقع، حقيقةَ أن كلَّ إنسان يعيش على هذه الأرض ليس مسؤولاً عن نفسه وحسب، بل وعن كل ما يحدث، ترى كيف يترجم ذلك في الحياة اليومية؟ هل تشعر ذاك الشعور، لا كاستنتاج عقلي، لا كمثال، إلى آخره؟ – وإلا فليس له من الواقع نصيب. لكنْ إذا كانت الحقيقة هي أنك تقف على الأرضية المشتركة بين النوع البشري بأسره، وكنت تشعر بأنك كلِّي المسؤولية، ما هو عندئذٍ عملك حيال المجتمع، حيال العالم الذي تعيش فعليًّا فيه؟

العالم كما هو الآن مليء بالعنف. هَبْ أنني أدركت بأني كلِّي المسؤولية. ما هو عملي؟ هل سأنضم إلى جماعة من الإرهابيين؟ بالطبع لا. من الواضح أن التنافس بين الأمم بات يدمِّر العالم. حين أشعر بأني مسؤول عن هذا تراني بطبيعة الحال أكفُّ عن المنافسة. وكلا العالم الديني والعالم الاقتصادي والاجتماعي، على حدٍّ سواء، يقوم على مبدأ التراتُب. فهل سآخذ أنا الآخر بهذا المفهوم عن النظرة التراتُبية؟ بالطبع لا، لأن مَن يقول: “أعرف” يتخذ موقعًا مستعليًا، فيكون صاحب مرتبة. فإذا كنت تريد تلك المرتبة اسْعَ في نيلها، لكنك بذلك تساهم في بلبلة العالم.

وإذن، فهناك أعمال فعلية، موضوعية، عاقلة، حين تدرك، حين تتحقَّق في أعماق قلبك، أنك سائر النوع البشري، وأننا جميعًا نقف على الأرضية نفسها.

زانن، 29 تموز 1981


* From the transcript of the tape recording of the first public question & answer meeting at Saanen, 29 July 1981, copyright ©1991 Krishnamurti Foundation Trust, Ltd.