أساس العلاقة*
ج. كريشنامورتي
يمكن للعلاقة أن توجد فقط حين يكون هناك نزول كلِّي عن الذات، عن الـ”أنا”. فحين تنعدم الأنا، إذ ذاك تكون على علاقة؛ وفي ذاك لا يوجد فصل من أي نوع. أغلب الظن أن المرء لم يشعر بذاك قط: النفي التام – لا عقليًّا، بل فعليًّا –، الزوال التام للأنا. ولعل ذلك ما يسعى إليه أغلبنا، جنسيًّا أو عبر التماهي مع شيء ما أعظم. لكن ذلك – أكرِّر –، أي سيرورة التماهي تلك مع شيء أعظم، هو نتاج الفكر؛ والفكر قديم: إنه – مثل الأنا، الأنيَّة، الإنِّي – نتيجة الأمس؛ إنه دومًا قديم. ومن ثَم يبرز السؤال: كيف يمكن التخلِّي تخلِّيًا تامًّا عن هذه السيرورة العازلة، هذه السيرورة المتمركزة على الأنا؟ كيف يمكن لهذا أن يتم؟ أتفهم السؤال؟ كيف يمكن لي – أنا الذي ينبع كلُّ نشاط من نشاطات حياتي اليومية من الخوف والكرب واليأس والأسى والبلبلة والأمل –، كيف يمكن للأنا التي تفصل نفسها عن الآخر – عبر التماهي مع الإله، مع إشراطها، مع مجتمعها، مع نشاطها الاجتماعي والخُلُقي، مع الدولة، إلى ما هنالك –، كيف يمكن لذلك أن يموت، أن يتلاشى، بحيث يستطيع الكائن الإنساني أن يكون على علاقة؟ إذ إننا، إذا لم نكن على علاقة، سنعيش عندئذٍ متحاربين بعضنا مع بعض. قد لا يقع قتلٌ لبعضنا بعضًا لأن ذلك، إلا في البلدان النائية، بات أخطر من أن نجرؤ عليه! فكيف يمكن لنا أن نحيا بحيث لا يكون هناك فصل، بحيث يمكن لنا أن نتعاون حقًّا؟
ما أكثر ما يجب القيام به في العالم: القضاء على الفقر؛ الحياة في سعادة؛ الحياة في بهجة بدلاً من العيش في عذاب وخوف؛ بناء نوع مختلف كليًّا من المجتمع، أخلاق تعلو على كلِّ أخلاق. لكن هذا ليس بمستطاع أن يكون إلا حين تُنكَر أخلاقُ المجتمع الراهن برمَّتها إنكارًا كليًّا. ما أكثر ما يجب القيام به؛ وليس بالمستطاع القيام به مادامت هذه السيرورة العازلة مستمرة. ترانا نتكلم على الـ”أنا” والـ”لي” والـ”آخر”: الآخر موجود فيما وراء الجدار، الأنا واللي في هذه الناحية من الجدار. وإذن، كيف يمكن لأساس المقاومة ذاك – وهو الأنا –، كيف يمكن لذاك أن يُتخلَّى عنه تمامًا؟ لأن تلك المسألة هي الأساس الحق من كلِّ علاقة؛ إذ يرى المرء أن العلاقة بين صور ليست علاقة على الإطلاق[1]، وأنه حينما يوجد ذلك النوع من العلاقة هناك نزاع حتمًا ونكون لا محالة ممسكين بخناق بعضنا بعضًا!
عندما تطرح على نفسك ذلك السؤال، تراك ستقول حتمًا: “أمحتَّمٌ عليَّ أن أعيش في خواء، في حال من الفراغ؟” أتساءل إنْ كنتَ اختبرتَ يومًا ماهية أن يكون لك ذهن فارغ تمامًا. لقد عشتَ في حيِّز أوجدتْه الـ”أنا”، وهو حيِّز صغير جدًّا. والحيِّز الذي بناه الـ”إنِّي” – السيرورة العازلة للذات – بين شخص وآخر هو كلُّ ما نعرف من حيِّز – الحيِّز الواقع بينه وبين المحيط، الحدُّ الفاصل الذي بناه الذهن. في هذا الحيِّز نعيش، وفي هذا الحيِّز هناك انقسام. تراك تقول: “إذا تخلَّيت عن ذاتي، أو إذا نزلت عن مركز أناي، سأعيش في خواء.” ولكن هل تراك يومًا تخلَّيت عن الأنا حقًّا، فعليًّا، بحيث لا تكون هناك أنا بتاتًا؟ هل تراك عشت يومًا في هذا العالم، ذهبت إلى المكتب، عشت مع زوجتك أو مع زوجك بتلك الروح؟ إذا كنت قد عشت على هذا النحو ستعرف أن هناك حالاً من العلاقة تنعدم فيها الأنا؛ وهي ليست يوطوپيا، ليست شيئًا يُحلَم به أو خبرة صوفية تافهة، بل شيء يمكن القيام به فعليًّا: الحياة على بُعْدٍ توجد فيه علاقة مع البشر كافة.
لكن ذاك يمكن له أن يوجد فقط حين نفهم ماهية المحبة. ولكي يكون المرء في تلك الحال، لكي يحيا فيها، عليه أن يتفهَّم لذة الفكر وآليَّته برمَّتها. إذ ذاك فإن كلَّ آليَّة معقَّدة ابتناها المرءُ لنفسه، حول نفسه، تُستطاع رؤيتُها بلمح البصر. ليس المرء مضطرًّا أن يخوض هذه السيرورة التحليلية كلَّها نقطة بعد نقطة. كلُّ تحليل فهو مجزَّأ، وبالتالي ليس هناك من جواب يأتي عبر ذلك الباب.
هناك مشكلة الوجود المعقَّدة الهائلة هذه، بكل مخاوفها وأتراحها وآمالها وسعادتها الزائلة وأفراحها، لكن التحليل لن يحلَّها. ما سيحلُّها هي الإحاطة بها إحاطة خاطفة، ككلٍّ. تراك تعرف أنك تفهم أمرًا ما فقط حين تنظر – لا بنظرة مطوَّلة مدرَّبة، النظرة المدرَّبة للفنان أو العالِم أو المرء الذي تمرَّس بـ”كيفية النظر”. تراه، إنْ نظرتَ إليه بانتباه تام؛ ترى الأمر ككلٍّ في لمحة واحدة. وسترى عند ذاك أنك خارجه. وعند ذاك تكون خارج الزمن؛ الزمن يتوقف والأسى، بالتالي، ينتهي. امرؤ يعاني أسى أو خوفًا امرؤ ليس على علاقة. كيف يمكن لرجل يطلب النفوذ أن يكون على علاقة؟! قد يكون صاحب أسرة، قد ينام مع زوجته، لكنه ليس على علاقة. رجل يتنافس مع غيره رجل لا علاقة له البتة. وبنيان مجتمعنا كلُّه، بلاأخلاقيته، يقوم على هذا. العلاقة الأساسية، الجوهرية، إنما تعني إنهاء الأنا التي تولِّد الفصل والأسى.
باريس، 25 نيسان 1968
* From Talks in Europe 1968, 25 April 1968, copyright ©1969 The Krishnamurti Foundation London.
[1] راجع: ج. كريشنامورتي، “الصورة”، سماوات جديدة: http://www.samawat-jadidah.org/j_krishnamurti/by_k/self-image. (المحرِّر)