فكر في هذه الأمور 2 من 27 – ج. كريشنامورتي

۲

مشكلة الحرية*

ج. كريشنامورتي

ج. كريشنامورتي

أود أن أناقش معكم مشكلة الحرية. إنها مشكلة معقدة للغاية، تحتاج إلى دراسة وفهم عميقين. إننا نسمع كلامًا كثيرًا يقال حول الحرية، الحرية الدينية وحرية فعل المرء ما يحلو له أن يفعل. لقد كتب البحاثة في هذا كله مجلدات ضخمة. لكني أظن أننا نستطيع مقاربة الموضوع مقاربة بسيطة جدًّا ومباشرة، ولعل ذلك سيوصلنا إلى الحل الحقيقي.

أتساءل فيما إذا توقفتم يومًا لرصد الوهج الرائع في الغرب عند غروب الشمس، وهلال القمر الخجول يطل من فوق الأشجار؟ في تلك الساعة غالبًا ما يكون النهر هادئًا جدًّا، فينعكس عندئذ كل شيء على سطحه: الجسر، القطار الذي يسير فوقه، القمر الحنون، وكما هي الحال الآن، مع اشتداد الظلمة، النجوم أيضًا. هذا كله جميل للغاية. ولرصد شيء جميل ومشاهدته وإعطاء انتباهك كاملاً إليه، لا بدَّ لذهنك من أن يكون خاليًا من الانشغالات، أليس كذلك؟ يجب على الذهن ألا يكون مشغولاً بمشكلات أو هموم أو تخمينات. إذ فقط حين يكون الذهن هادئًا للغاية تستطيع أن ترصد حقًّا، لأن الذهن يكون عندئذ حساسًا للجمال الخارق. ولعل هاهنا دليلاً إلى مشكلتنا مع الحرية.

والآن، ما معنى أن يكون المرء حرًّا؟ هل الحرية هي قضية أن تفعل ما يتفق له أن يلائمك، أن تذهب إلى حيث يحلو لك، أو أن تفكر فيما تشاء؟ هذا ما تفعلونه في كل الأحوال. مجرد الحصول على الاستقلال، هل يعني ذلك الحرية؟ أناس كثيرون في العالم مستقلون، لكنْ قليلون جدًّا أحرار. الحرية تقتضي ذكاءً عظيمًا، ألا تقتضيه؟ أن تكون حرًّا هو أن تكون ذكيًّا؛ لكن الذكاء لا يوجد بمجرد تمني الحرية، بل يوجد فقط عندما تبدأ بفهم بيئتك كلها، بفهم المؤثرات الاجتماعية والدينية وتأثيرات الأبوين والتقاليد التي تضيِّق عليك الخناق باستمرار. لكن فهم هذه المؤثرات المختلفة – تأثير أبويك، حكومتك، المجتمع، الثقافة التي تنتمي إليها، تأثير معتقداتك، آلهتك وخرافاتك، تأثير التقاليد التي ترضخ لها من دون تفكير – إن فهم هذه المؤثرات كلها والتحرر منها يتطلب نفاذ بصيرة عميق؛ لكنك في الغالب تستسلم لها لأنك داخليًّا مرعوب: تراك تخشى عدم الحصول على منصب جيد في الحياة؛ تخشى ما سوف يقوله رجل الدين؛ تخشى عدم اتِّباع التقليد وعدم فعل الصواب. لكن الحرية في الحقيقة حالة ذهنية لا خوف فيها ولا إكراه، ولا دافع إلى الشعور بالأمن.

ألا يريد أغلبنا أن يشعروا بالأمان؟ ألا نريد أن يقال لنا: كم نحن أناس رائعون، كم نبدو محبَّبين، أو أي ذكاء خارق هو ذكاؤنا؟ – فلولا ذلك لما وضعنا ألقابًا قبل أسمائنا. تلك الأشياء من هذا النوع تمنحنا ثقة بالنفس، إحساسًا بالأهمية. نريد جميعًا أن نكون أناسًا مشهورين – وبمجرد أن نريد أن نكون ذوي شأن لا نعود أحرارًا.

أرجوكم أن تدركوا هذا، لأنه الدليل الحقيقي إلى فهم مشكلة الحرية. فسواء في عالم رجال السياسة والنفوذ والمناصب والسلطة هذا، أو فيما يُسمى "العالم الروحي"، حيث تتشوق إلى اكتساب الفضيلة أو النبل أو القداسة، بمجرد أن تريد أن تكون شخصية مرموقة لا تعود حرًّا. لكن الرجل أو المرأة الذي يرى عبثية هذه الأشياء كلها ويكون قلبه بالتالي بريئًا، وبالتالي غير مدفوع بالرغبة في أن يصبح شخصية مرموقة – شخص كهذا إنسان حر. إذا فهمتم بساطة الأمر سوف تدركون أيضًا جماله وعمقه الخارقين.

وفي الحاصل، وُضعت الامتحانات لذاك الغرض بعينه: لمنحك منصبًا، لجعلك شخصية مرموقة. الألقاب والمناصب والمعرفة تشجعك أن تكون ذا شأن. ألم تلحظ أن أبويك ومدرسيك يقولون لك إنك يجب أن تحصِّل شيئًا ما في الحياة، إنك يجب أن تكون ناجحًا مثل عمك أو جدك؟ أو تراك تحاول أن تقتدي ببطل ما، أن تكون مثل السادة المعلِّمين أو القديسين؛ ومنه فأنت لست حرًّا أبدًا. فسواء حذوت حذو سيد معلِّم أو قديس أو مدرس أو أحد أقاربك، أم التزمْتَ تقليدًا معينًا، ينطوي هذا كله على طلب من جانبك بأن تكون ذا شأن؛ وفقط عندما تفهم هذا الأمر حق فهمه توجد الحرية.

دور التربية، إذن، هو مساعدتك منذ الطفولة على أن لا تقلد أحدًا، بل أن تكون نفسك طوال الوقت. وهذا شيء فعلُه صعب للغاية: سواء كنت قبيحًا أو جميلاً، سواء كنت حسودًا أو غيورًا، أن تكون ما أنت إياه دومًا – على أن تفهمه. أن تكون نفسك هو شيء صعب جدًّا، لأنك تظن أن ما أنت إياه خسيس، وأنك إذا استطعت وحسب أن تغيِّر ما أنت إياه إلى شيء نبيل سيكون هذا رائعًا؛ لكن ذلك لا يحدث أبدًا. في حين أنك إذا نظرت إلى ما أنت إياه فعليًّا، وفهمته، فإن في ذلك الفهم بعينه تحولاً جذريًّا. وإذن فالحرية لا تكمن في محاولتك أن تصير شيئًا مختلفًا، ولا في فعل كل ما يتفق لك أن تشتهي فعله، ولا في اتِّباع سلطة التقاليد أو أبويك أو معلِّمك الروحي [گورو]، بل في فهم ما أنت إياه من لحظة للحظة.

وكما ترى، أنت لا تربَّى لهذه الغاية: فتربيتك تشجعك أن تصير هذا الشيء أو ذاك – لكن ذلك ليس فهم نفسك. إن "نفسـ"ـك شيء معقد جدًّا؛ إنها ليست فقط الكيان الذي يذهب إلى المدرسة، يتشاجر، يلعب ألعابًا، يخاف، لكنها أيضًا شيء خفي، ليس ظاهرًا. إنها ليست مركَّبة من كل الأفكار التي تفكر فيها وحسب، ولكن أيضًا من كل الأشياء التي وضعها الآخرون والكتب والجرائد والقادة في ذهنك؛ ومن الممكن فهم ذلك كله فقط عندما لا تريد أن تصبح شخصية مرموقة، عندما لا تقلد، عندما لا تتبع أحدًا – ما يعني، حقًّا، عندما تكون متمردًا على التقليد برمته الذي يحثك على أن تصير ذا شأن. تلك هي الثورة الحقيقية الوحيدة التي تؤدي إلى حرية خارقة. إن تنمية هذه الحرية هي دور التربية الحقيقي.

آباؤكم ومدرسوكم ورغباتكم الخاصة يريدونكم أن تتماهوا مع هذا الشيء أو ذاك من أجل أن تكونوا سعداء، آمنين. لكنكم، لكي تكونوا أذكياء، ألا يجب عليكم أن تخترقوا كل المؤثرات التي تستعبدكم وتسحقكم؟

الأمل في عالم جديد يكمن في أولئك منكم الذين يبدؤون في رؤية ما هو زائف ويتمردون عليه، ليس لفظيًّا وحسب، بل فعليًّا. ولذلك عليكم أن تطلبوا التربية الصحيحة؛ لأنه فقط عندما تنمون في حرية تستطيعون أن تخلقوا عالمًا جديدًا ليس قائمًا على التقاليد ولا مشكَّلاً بحسب رغبة الفيلسوف الفلاني أو مزاجية مفكر مثالي ما. ولكن لا مجال للحرية مادمت تحاول فقط أن تصير شخصية مرموقة أو تقلد مثالاً نبيلاً.

سؤال: ما هو الذكاء؟

كريشنامورتي: فلنغُصْ في المسألة بتأنٍّ وصبر، ولنكتشف. الاكتشاف ليس التوصل إلى نتيجة. لا أدري إنْ كنتم تدركون الفرق. لحظة تتوصل إلى نتيجة حول ماهية الذكاء تكف عن كونك ذكيًّا. ذلك ما تفعله غالبية الناس الأكبر سنًّا: لقد توصلوا إلى نتائج، وبالتالي كفوا عن كونهم أذكياء. وإذن فقد اكتشفتم في الحال شيئًا واحدًا: وهو أن الذهن الذكي ذهن يتعلم تعلمًا مستمرًّا، ولا يستنتج أبدًا.

ما هو الذكاء؟ أغلب الناس يكتفون بتعريف بماهية الذكاء. فهم إما يقولون: "هذا تفسير جيد"، وإما يفضلون تفسيرهم الخاص؛ وذهنٌ يكتفي بتفسير ما ذهنٌ سطحي للغاية، وبالتالي ليس ذكيًّا.

لقد بدأتم تدركون أن ذهنًا ذكيًّا ذهن لا يكتفي بالتفسيرات، بالاستنتاجات؛ ولا هو ذهن يسلِّم بمعتقد ما، لأن الاعتقاد هو أيضًا شكل آخر من الاستنتاج. الذهن الذكي هو ذهن دائم التقصي، ذهن يراقب، يتعلم، يدرس. ما يعني ماذا؟ ما يعني أن الذكاء يوجد فقط عندما ينعدم الخوف، عندما تكون مستعدًّا للتمرد، لمعارضة البنية الاجتماعية برمتها، لكي تكتشف ما هو الله، أو لتكتشف حقيقة أي شيء.

الذكاء ليس المعرفة. فحتى لو استطعت أن تقرأ كتب العالم كلها لما أعطاك هذا ذكاء. الذكاء شيء حاذق للغاية، وليس له مكان يرسو فيه. إنه يوجد فقط عندما تفهم سيرورة الذهن بكلِّيتها – لا الذهن بحسب رأي فيلسوف أو معلم ما، بل ذهنك أنت. فذهنك نتاج للبشرية جمعاء، وحين تفهمه، لست بحاجة لأن تدرس كتابًا واحدًا حتى، لأن الذهن يشتمل على معرفة الماضي بأسرها. وإذن، يوجد الذكاء مع فهمك نفسَك؛ وتستطيع فهم نفسك فقط في علاقتك مع عالم الناس والأشياء والأفكار. الذكاء ليس شيئًا تستطيع اكتسابه، كالتعلم؛ إنه ينبثق مع التمرد العظيم، أي عندما ينعدم الخوف – ما يعني، حقًّا، عندما يكون هناك شعور بالمحبة. فحيثما ينعدم الخوف توجد المحبة.

إذا كنت مهتمًّا بالتفسيرات وحسب، أخشى أنك ستشعر بأني لم أجبْ عن سؤالك. فالسؤال عن ماهية الذكاء كالسؤال عن ماهية الحياة. الحياة هي الدراسة، اللعب، الجنس، العمل، الشجار، الحسد، الطموح، الحب، الجمال، الحقيقة – الحياة هي كل شيء، أليست كذلك؟ ولكن، كما ترى، فإن غالبيتنا ليس لديهم الصبر الجاد والدءوب لمتابعة هذا التقصي.

سؤال: هل يمكن للذهن الفج أن يصبح حساسًا؟

كريشنامورتي: أصغ إلى السؤال، إلى المعنى وراء الكلمات. هل يمكن لذهن فج أن يصير حساسًا؟ إذا قلت إن ذهني فج وأحاول أن أصير حساسًا، فالجهد لأصير حساسًا بحدِّ ذاته هو الفجاجة بعينها. أرجوك أن تدرك هذا. لا تتعجب، بل عاينْه! في حين أنني، إذا أدركتُ أنني فج من غير أن أريد التغير، من غير أن أحاول أن أصير حساسًا، إذا بدأت أفهم ماهية الفجاجة، ورصدتها في حياتي من يوم ليوم، – الطريقة النهمة التي آكل بها، الفظاظة التي أعامل بها الناس، الغرور، التكبر، خشونة عاداتي وأفكاري، – عندئذ فإن هذا الرصد بعينه يحوِّل الـماهو جذريًّا.

بالمثل، إذا كنت غبيًّا وقلت في نفسي إن علي أن أصير ذكيًّا، فالجهد لأصير ذكيًّا هو مجرد شكل أعظم من أشكال الغباء؛ لأن المهم هو فهم الغباء. فمهما حاولت أن أصير ذكيًّا فإن غبائي سيبقى. قد أكتسب طلاء الثقافة السطحي، قد أتمكن من اقتباس الكتب أو ترديد مقاطع من كتَّاب عظام، لكني سوف أظل من حيث الأساس غبيًّا. لكني إذا رأيت الغباء وفهمته كما يعبِّر عن ذاته في حياتي اليومية، – كيف أتعامل مع خادمي، كيف أنظر إلى جاري، إلى الرجل الفقير، إلى الرجل الغني، إلى الموظف، – إذ ذاك فإن ذلك الوعي نفسه يجلب تحطيم الغباء.

جرِّب هذا بنفسك: راقب نفسك وأنت تكلم خادمك، لاحظ الاحترام البالغ الذي تُعامِل به مسؤولاً حكوميًّا وقلة الاحترام التي تبديها للرجل الذي ليس لديه شيء يعطيكه. عندئذ تبدأ باكتشاف مقدار غبائك؛ وفي فهم ذلك الغباء ذكاء، حساسية. لستَ مضطرًّا لأن تصير حساسًا. فالمرء الذي يحاول أن يكون ذا شأن امرؤ قبيح، غير حساس؛ إنه شخص فج.

سؤال: كيف يستطيع الطفل اكتشاف ما هو دون مساعدة أبويه ومدرِّسيه؟

كريشنامورتي: هل قلتُ إنه يستطيع، أم أن هذا تأويلك أنت لما قلتُ؟ سيكتشف الطفل أمورًا عن نفسه إذا كانت البيئة التي يحيا فيها تساعده على فعل ذلك. إذا كان الأبوان والمدرسون مهتمين حقًّا بأن يكتشف الشخص الفتي ما هو، لن يجبروه على شيء، بل سيوجِدون له بيئة يتوصل فيها إلى معرفة نفسه.

لقد سألتَ أنت هذا السؤال؛ لكن هل هي مشكلة حيوية بنظرك؟ لو كنت تشعر شعورًا عميقًا أن من المهم للطفل أن يكتشف أمورًا عن نفسه، وأنه لا يستطيع أن يفعل هذا مادامت تسيطر عليه سلطة ما، ألن تساعد في إيجاد البيئة الصحيحة؟ إنه مرة أخرى الموقف القديم إياه: قل لي ماذا أفعل وسأفعله. نحن لا نقول: "هيا نتشارك في حل الأمر معًا." مشكلة كيفية إيجاد بيئة يستطيع الطفل فيها تحصيل معرفة عن نفسه قضية تخص الجميع – الآباء والمدرسين والأطفال أنفسهم. لكن معرفة الذات لا يمكن فرضُها، الفهم لا يمكن الإجبار عليه؛ وإذا كانت هذه مسألة حيوية بنظرك وبنظري، بنظر الآباء وبنظر المدرسين، فإننا معًا سوف ننشئ مدارس من النوع الصحيح.

سؤال: أخبرني الأطفال أنهم رأوا في القرى بعض الظواهر العجيبة، كالتلبُّس، وأنهم خائفون من الأشباح والأرواح وما شابه. وهم يسألون أيضًا عن الموت. فماذا ينبغي أن يقال في هذا كله؟

كريشنامورتي: في الوقت المناسب سنتقصى ماهية الموت. ولكن، كما ترون، الخوف شيء عجيب. لقد أخبركم، أيها الأطفال، آباؤكم وكبار السن عن الأشباح – ولولا ذلك على الأرجح لما رأيتم أشباحًا. لقد أخبركم أحدهم عن تلبُّس الأرواح. أنتم أصغر من أن تدروا بتلك الأمور. إنها ليست خبرتكم الشخصية، بل هي انعكاس لما أخبركم به الكبار. والكبار أنفسهم غالبًا ما لا يفقهون شيئًا عن هذه الأمور؛ لقد قرأوا عنها في بعض الكتب وحسب، ويظنون أنهم فهموها. وهذا يثير سؤالاً مختلفًا تمامًا: هل هناك خبرة لا يشوبها الماضي؟ إذا كانت الخبرة مشوبة بالماضي فهي مجرد استمرار للماضي، وبالتالي ليست خبرة أصيلة.

المهم هو أن على أولئك منكم الذين يتعاملون مع الأطفال ألا يفرضوا عليهم أضاليلهم، مفاهيمهم الشخصية عن الأشباح، أفكارهم وخبراتهم الخاصة. هذا شيء من الصعب تفاديه، لأن الكبار يطيلون الكلام على كل هذه الأمور غير الجوهرية التي لا أهمية لها في الحياة؛ وبذا يلقنون الأطفال تدريجيًّا قلقهم ومخاوفهم وخرافاتهم، وبالطبع يكرِّر الأطفال ما سمعوه. من المهم للكبار، الذين عمومًا لا يفقهون شيئًا عن هذه الأمور، ألا يتكلموا عنها أمام الأطفال، بل أن يساعدوا، بدلاً من ذلك، في إيجاد مناخ يستطيع فيه الأطفال أن ينموا في حرية وبلا خوف.


* J. Krishnamurti, This Matter of Culture, Victor Gollancz Ltd, London, 1974, pp. 16-22.