خطاب إلى الأمم المتحدة
ج. كريشنامورتي
"نَحِّ الكتاب، الوصف، التقليد، المرجعية،
وامض في سبيلك مكتشفًا بمفردك."
ج. كريشنامورتي
تقديم
ولد جِدُّو كريشنامورتي في قرية صغيرة من جنوب الهند في 12 مايو/أيار 1895 وتوفي في 17 فبراير/شباط 1986 في أوهَيْ، كاليفورنيا.
في العام 1929، تخلى كريشنامورتي عن الدور الذي أنيط به بوصفه "المعلم العالمي" المنتظَر، مفككًا التنظيمات "الروحية" التي طوقتْه، منطلقًا في مهمة، نذر لها حياتَه كلها، لـ"تحرير الإنسان تحريرًا مطلقًا غير مشروط" من القيود والإشراطات كافة، بما فيها القيود والإشراطات التي يفرضها الدين المنظم، ومن الاتكال على المرجعيات الدينية والروحية المختلفة، فجاب العالم طوال 65 سنة، ملقيًا العديد من الأحاديث والمطارحات العامة ومُجريًا لقاءات وحوارات خاصة مع آلاف الناس من جميع الأعمار والخلفيات والاختصاصات، مصرًّا دائمًا أنه فقط "من خلال تغيير كامل في قلوب الأفراد وعقولهم يمكن لتغيُّر في المجتمع وللسلام في العالم أن يحدث". وقد ظل على هذا حتى قبيل وفاته بأسابيع قليلة.
لم يعتنق كريشنامورتي أي مذهب، كما لم يبشر بأية عقيدة، بل صاغ تعليمه الفريد وحده، منصرفًا انصرافًا كليًّا إلى رصد دائم لآليات الذهن البشري في كتابات ومحاضرات ومحاورات ويوميات جُمعتْ في أكثر من 80 كتابًا وفي آلاف التسجيلات الصوتية والمرئية وتُرجمتْ إلى حوالى 50 لغة. والقضايا الدائمة التي تصدى لها، والتي تتناول أصل المشكلات البشرية والتحرر النفسي بالإدراك التام للعملية الذهنية، بوَّأتْه مكانةً خاصةً بوصفه واحدًا من أكثر متكلِّمي القرن العشرين وكتَّابه تشكيكًا في الفكر المستكين إلى يقينياته: إذ إن كريشنامورتي كان يريد تحرير البشر نفسيًّا لكي يكونوا على تناغُم مع أنفسهم وأشباههم ومع الطبيعة. وقد علَّم أن الإنسان هو صانع البيئة التي يعيش فيها وأن إيقاف كابوس العنف المستمر منذ آلاف السنين لا يتم إلا بتحول جذري في النفس البشرية. وقد اكتفى بإعطاء إشارات حول "فن" القيام بهذا التحول؛ إذ ما من طريق ولا منهج لبلوغه لأن "الحقيقة أرض بلا دروب": على كلِّ واحد أن يقوم بالعمل بمفرده، دون اللجوء إلى أي معلم أو مرجعية من أي صنف كانت؛ فالحياة بأسرها هي المعلم.
لهذه الأسباب مجتمعة، كانت التربية واحدة من اهتماماته الرئيسية: إذا استطاع الطفل أن يتعلم رؤية الإشراطات القومية والدينية والمذهبية والاجتماعية إلخ التي ينشأ عليها، والتي تقوده حتمًا إلى النزاع، فإنه يقدر عندئذٍ أن يعي أنه العالم وأن العالم فيه؛ ولعله يستطيع بذلك أن يصبح كائنًا بشريًّا يتصف بذكاء رفيع يلهمه السلوك السليم آنًا بآن. فالأحكام المسبقة وسائر المعتقدات تحول بين الذهن وبين لمس الحقيقة والحرية والمحبة.
شهد القرن الذي عاش فيه كريشنامورتي حربين عالميتين، عنفًا قوميًّا وطائفيًّا وسياسيًّا مستمرًّا، مجازر جماعية لم يسبق لها مثيل، تطورًا وتكاثرًا في أسلحة الدمار الشامل، بالإضافة إلى التضخم السكاني وانهيار البيئة الطبيعية وتفتُّت المؤسسات الاجتماعية. وهذه الكوارث كلها زرعت الخوف في قلوب البشر واليأس من قدرة الإنسان على حل مشكلاته. لذا خصَّ كريشنامورتي هذه الأزمة العالمية باهتمام كبير في أحاديثه كلِّها، داعيًا المستمعين إليه إلى أن يولوا انتباههم الجدِّي للبنى والاستعدادات النفسية التي تولد العنف والألم في حياتهم.
أصرَّ كريشنامورتي طوال عمره على أنه لا يريد أتباعًا؛ ولذلك لم يؤسس أية منظمة ولم يُحِطْ نفسه بجماعة من الأتباع أو المريدين، ولم يُجِزْ لأحد بعينه أن يخلفه أو يفسر تعاليمه أو يشرحها، بل اكتفى بأن يطلب من الذين يشاركونه اهتماماته الملحَّة هذه أن يحافظوا، بعد موته، على سجلٍّ أمين لأحاديثه وكتاباته للأجيال القادمة، بما يجعلها متوفرة للجمهور على أوسع نطاق.
بعد إلقاء الخطاب التالي من على منبر الأمم المتحدة، كان من المقرر تقليدُ كريشنامورتي وسامَ الأمم المتحدة للسلام للعام 1984، لكنه اعتذر عن قبوله انسجامًا مع تعاليمه التي لم يراع فيها التشريفات الدنيوية من أي نوع.
* * *
كريشنامورتي: مطلوب منِّي أن أتكلم على السلام العالمي فيما يتعدى الذكرى الأربعين لميلاد الأمم المتحدة.
عاش النوع البشري – الإنسان – على هذه الأرض طوال ما يزيد عن الخمسين ألف عام، وربما مدة أطول بكثير، أو مدة أقل. وإبان هذا التطور الطويل كلِّه، لم يجد الإنسانُ "السلام على الأرض": السلام في الأرض[1] ظل يبشِّر به، قبل المسيحية بوقت طويل، قدماءُ الهندوس والبوذيون. وإبان هذا الزمن كله، ما انفك الإنسان يعيش في نزاع، لا في نزاع مع جيرانه وحسب، بل ومع قومه هو، مع مجتمعه هو، مع أسرته؛ مافتئ يقاتل، يصارع ضد الإنسان، طوال الخمسة آلاف سنة الأخيرة، وربما أكثر. تاريخيًّا، ظلت الحروب تنشب عمليًّا كل عام. ونحن لا نزال في حالة حرب. أعتقد أن هناك أربعين حربًا مندلعة في الوقت الحالي. ورجال الدين – ليس الكاثوليك وحسب، بل الجماعات الأخرى أيضًا – تكلموا على "السلام في الأرض" وعلى النية الطيبة بين البشر؛ لكنه لم يحل قط – لم ننعم بالسلام على الأرض. تكلموا فقط على السلام عند الموت، حيث يذهب المرء إلى الجنة وينعم بالسلام هناك!
والمرء يتساءل، إذا كان على شيء من الجدية أصلاً، لماذا يقتل إنسانٌ إنسانًا آخر – باسم الله، باسم السلام، باسم إيديولوجيا ما، أو في سبيل "وطنه"، مهما يكن معنى هذه الكلمة، أو من أجل الملك أو الملكة، إلى آخر ما هنالك من مساخر. لعلنا جميعًا نعرف هذا الواقع: واقع أن الإنسان لم يعشْ قط في سلام على هذه الأرض، التي مافتئت تُدمَّر تدميرًا بطيئًا، ولماذا لا يستطيع الإنسان أن يحيا في سلام مع كائن إنساني آخر. و[نعرف] لماذا توجد أمم منفصلة – وهي في النهاية عصبية قبلية مضخَّمة. والأديان، سواء المسيحية أو الهندوسية أو البوذية، هي الأخرى يحارب بعضها بعضًا. الأمم تتحارب، الجماعات تتحارب، الإيديولوجيات جميعًا، سواء كانت الروسية أو الأمريكية أو أية فئة أخرى من الإيديولوجيات، في حرب، في نزاع، بعضها مع بعض. وبعد العيش على هذه الأرض طوال هذه القرون العديدة، ما الذي يحول دون الإنسان والحياة في سلام على هذه الأرض البديعة؟ ما انفك هذا السؤال يُطرَح مرارًا وتكرارًا. تم إنشاء منظمة كهذه [الأمم المتحدة] حول هذه الفكرة. فما هو مستقبل هذه المنظمة بالذات؟ بعد السنة الأربعين [على نشوئها]، ما الذي يخبئه المستقبل؟
الزمن عامل غريب في الحياة. الزمن هام جدًّا بنظرنا جميعًا. والمستقبل هو ما هو حاضر: المستقبل هو الآن، لأن الحاضر، الذي هو الماضي أيضًا، معدِّلاً نفسه الآن، يصير المستقبل. لا تزال دورة الزمن، مسار الزمن، هو هو. والآن، ليس فيما يتعدى الأربعين سنة من عمر هذه المنظمة، بل الآن، في الوقت الحاضر، إذا لم يحصل أي تغيير جذري، طفرة أساسية ما، سيكون المستقبل على ما هو الحاضر الآن. ذلك مبرهَن عليه تاريخيًّا، وبوسعنا أن نبرهن عليه في حياتنا اليومية.
إذن فالسؤال في الواقع هو: هل الكائنات البشرية، أنتم ونحن، الجالسون على المنصة، – وأعتذر عن مجلسي المرتفع هنا، – كائنات إنسانية حقًّا؟ فمادمنا – بعضنا مع بضع، أو الرجل مع المرأة – في نزاع دائم، لن يكون سلام على هذه الأرض. قد يتكلم المرء عليه إلى ما لا نهاية. الكنيسة الكاثوليكية الرومانية تتكلم على "السلام في الأرض"، لكنهم كانوا أيضًا مسئولين عن حروب مروِّعة في الماضي: مئة عام من الحرب والتعذيب وسائر ألوان الفظائع التي أساؤوا بها إلى الإنسان. هذه كلها حقائق، وقائع، وليست من بنات أفكار المتكلم. والأديان، بما فيها الإسلام والهندوس والبوذيون إلى آخرها، شنَّ كل منها نوعه الخاص من الحرب. وهكذا فإن المستقبل فيما يتعدى الذكرى الأربعين هو ما يجري الآن.
يتساءل المرء عما إذا كان الناس يدركون ذلك. الحاضر ليس الماضي وحسب، بل هو ينطوي على المستقبل أيضًا: الماضي معدِّلاً نفسَه على الدوام عِبْرَ الحاضر ومُسقِطًا المستقبل. إذا لم نكف عن الخصومات والنزاعات والخلاف والكراهية الآن فسيظل الأمر على حاله غدًا. بوسعك أن تمدِّد ذلك الغد ألف سنة، لكنه مع ذلك سيظل الغد.
لذا يجب علينا أن نتساءل عما إذا كنا، كبشر، – أفرادًا أو طوائف، أو في أسرة، – عما إذا كنا نستطيع أن نحيا في سلام بعضنا مع بعض؟ المنظمات لم تحل هذه المشكلة. بوسعك أن تعيد التنظيم، لكن الحرب تظل مستمرة. المنظمات، إذن، سواء المنظمات العالمية أو أي صنف خاص من المنظمات الهادفة إلى إحلال السلام، مثل هذه المنظمات لن تفلح أبدًا لأن البشر، فرديًّا، جماعيًّا، قوميًّا، مافتئوا في نزاع. الأمم القوية، مثل أمريكا أو روسيا، في حرب بعضها على بعض – اقتصاديًّا وإيديولوجيًّا وفعليًّا – وإنْ لم يصل الأمر إلى سفك الدماء. إذن فالسلام لا يمكن له قطعًا أن يوجد على هذه الأرض بوجود قوميات، وهي، كما قلنا، عصبية قبلية معظمة. القوميات تمنح شيئًا من الأمان: الإنسان في حاجة إلى الأمان، فيستثمر في القومية، أو في إيديولوجيا أو معتقد معيَّن. المعتقدات، الإيديولوجيات، إلى ما هنالك، جزأت الإنسان. والمنظمات لا يمكن لها قطعًا أن تُحِلَّ السلامَ بين الإنسان والإنسان لأنه يؤمن بشيء معيَّن، يؤمن بإيديولوجيات معيَّنة، يؤمن بالله، فيما غيرُه لا يؤمن.
أتساءل إذا كان المرء قد انتبه يومًا إلى أن الأديان القائمة على كتاب – كالقرآن أو الكتاب المقدس – تصير متعصبة، ضيقة، وأصولية جدًّا. وأديانٌ مثل الدين الهندوسي والبوذي لديها عدد لا يُحصى من الكتب، تُعتبَر جميعًا مقدسة، حقيقية، نازلة رأسًا من فم الله! إنها ليست بهذا القدر من التعصب، إنها متسامحة، تستوعب. إذن، هناك هذا النزاع الدائر بين هؤلاء الذين يتكئون في إيمانهم على الكتب وبين أولئك الذين لا يتكئون في إيمانهم على أي كتاب؛ ونزاع، إذن، بين أهل الكتاب وبين الذين يقبلون كتبًا عديدة. أتساءل عما إذا كان المرء على وعي بهذا كله.
ونحن نتساءل في عمق، إذا كنتم على شيء من الجدية أصلاً، إنْ كنا – أنتم وأنا وأولئك المنخرطون في منظمات – نستطيع أن نحيا في سلام بعضنا مع بعض؟ السلام يتطلب قدرًا كبيرًا من الفطنة، وليس مجرد التظاهر ضد شكل معين من أشكال الحرب، ضد قنبلة نووية أو ذرية، إلى ما هنالك. تلك نواتج أذهان وأدمغة متحصنة بالقومية، بشكل معيَّن من الاعتقاد أو الإيديولوجيا؛ وبذا فإنها تزود بالأسلحة – الدول القوية، سواء روسيا أو أمريكا أو إنكلترا أو فرنسا – [تزود] بالأسلحة بقية دول العالم، وهي كذلك تتكلم على السلام، فيما هي تزود بالأسلحة!
إنه لعالم شاسع صفيق، والصفاقة لا يمكن لها أن تطيق العطف والرعاية والمحبة. أظننا فقدنا تلك الخاصية – صفة الرحمة. لا تحلِّلوا ماهية الرحمة – فهي يمكن تحليلها في سهولة بالغة. ليس بمقدوركم تحليل المحبة؛ فالمحبة لا تقع ضمن نطاق الدماغ، لأن الدماغ هو أداة الإحساس، هو مركز سائر ردود الأفعال والأفعال، ونحن نحاول أن نجد السلام والمحبة ضمن هذا النطاق المحدود. وهذا يعني أن الفكر ليس المحبة لأن الفكر قائم على التجربة – وهي محدودة – وعلى المعرفة – وهي دومًا محدودة، سواء الآن أو في المستقبل. المعرفة، إذن، محدودة دومًا. وبالحصول على المعرفة، المحتواة في الدماغ كذاكرة، ينبع الفكر من تلك الذاكرة. وهذا يمكن للمرء رصدُه في بساطة وسهولة بالغتين إذا فحص عن نفسه، إذا نظر في نشاط فكره وتجربته ومعرفته. ليس المرء مضطرًّا إلى قراءة أي كتاب أو إلى أن يصير اختصاصيًّا لكي يفهم.
الفكر، إذن، محدود دومًا، سواء الآن أو في المستقبل. ونحن نحاول أن نحل مشكلاتنا كلها، التكنولوجية والدينية والشخصية جميعًا، عِبْرَ نشاط الفكر. الفكر ليس المحبة جزمًا؛ فالمحبة ليست الإحساس أو اللذة، وهي ليست نتاجًا للرغبة؛ إنها شيء مختلف كل الاختلاف. فحتى يجد المرء تلك المحبة، التي هي الرحمة، والتي تتصف بفطنتها الخاصة، عليه أن يفهم نفسه، أن يفهم ما نحن – ليس من خلال التحليل، بل بفهم مآسينا نحن، ملذاتنا نحن، معتقداتنا نحن.
أينما ذهبتم في العالم قاطبة، كما تعلمون، تجدون البشرية، البشر، يتألمون، لأسباب متنوعة: قد تكون تافهة، أو تعود إلى حادثة ماضية عميقة جدًّا جدًّا تسببتْ في الألم أو الأسى. وكل إنسان على هذه الأرض يكابد هذا، بدرجة صغرى أو نتيجة حادثة هائلة، كالموت. الأسى قاسم مشترك بين البشر أجمعين؛ إنه ليس أساك أو أساي، بل هو أسى البشرية، جزع البشرية، وجعها، عزلتها، يأسها، عدوانيتها. إذن، أنتم ونحن بقيةُ البشرية؛ نفسانيًّا، لسنا كائنات بشرية منفصلة. قد تكون امرأة أو رجلاً، قد تكون طويلاً أو أسمر أو قصيرًا، إلى ما هنالك؛ لكننا داخليًّا، نفسانيًّا (وهو الأهم بكثير)، نحن بقية البشرية. أنت بقية البشرية: فإذا قتلتَ إنسانًا آخر، إذا تنازعت وإنسانًا آخر، فأنت مدمِّر نفسك لا محالة. تستطيع أن ترصد هذا في دقة شديدة جدًّا إذا نظرتَ إلى نفسكَ من دون مواربة.
إذن، لا يمكن أن يحل سلام إلا حين البشرية، حين أنت وأنا، يزول كل نزاع من أنفسنا. رُبَّ قائل يقول: "حين يحقق المرء، أو يضع حدًّا لكلِّ نزاع في نفسه، كيف سيؤثر هذا في بقية البشرية؟" هذا سؤال قديم جدًّا جدًّا. لقد طُرحَ قبل المسيح – إنْ وُجِدَ أصلاً – بآلاف من السنين. وعلينا أن نسأل إن كان من الممكن للأسى والألم والجزع إلى ما هنالك أن تنتهي فينا يومًا؟ إذا انكبَّ المرء فاحصًا، راصدًا، في انتباه عظيم، كما تنظرين أنتِ في انتباه شديد، حين تمشطين شعركِ، أو أنتَ، حين تحلق ذقنك، بخاصية الانتباه تلك، محتدةً، تستطيع أن ترصد نفسك – بتلاوينها ودقائقها كلها. والمرآة هي علاقتك بين البشر: في تلك المرآة تستطيع أن ترى نفسك كما أنت بالضبط. لكن غالبيتنا ترتعب من رؤية ما نحن؛ وبهذا ننمي فينا بالتدريج المقاومة والإحساس بالذنب وسائر المساخر الأخرى. وبذلك لا نطلب أبدًا الحرية الكاملة – لا حرية أن تفعل ما يحلو لك، بل التحرر من الاختيار. فحيثما توجد خيارات متعددة توجد التباسات عديدة.
فهل بمقدورنا أن نحيا السلام على هذه الأرض في تفهُّم كبير للإنسانية؟ – وهو فهم نفسك فهمًا عميقًا للغاية، ليس بحسب عالِم نفس أو محلِّل ما (فهؤلاء أيضًا يحتاجون إلى تحليل!). إذن، نحن نستطيع، من دون اللجوء إلى المهنيين، بوصفنا أناسًا عاديين بسطاء، نستطيع أن نرصد أمزجتنا الخاصة، ميولنا. هل في إمكان دماغنا (والمتكلم ليس اختصاصيًّا في مادة المخ) – ودماغُنا مافتئ مشروطًا على الحرب، على الكره، على النزاع؛ إنه مشروط خلال هذه الفترة الطويلة من التطور – هل في إمكان ذلك المخ بخلاياه، التي تختزن الذاكرات كلها، أن يتحرر من إشراطه بالذات. من السهل جدًّا، كم تعلمون، الجواب عن مثل هذا السؤال. إذا طال بك الاتجاه شمالاً أيام حياتك كلها، مثلما أن البشرية طال بها المضي في اتجاه معيَّن، وهو نزاع، وأتاك أحدهم وقال: "هذا لا يقود إلا إلى طريق مسدود" – وهو جادٌّ، وربما كنت أنت جادًّا – ثم قال: "امض جنوبًا أو امض شرقًا أو إلى أية جهة أخرى غير هذه"، حين تتحول فعلاً عن تلك الجهة تحدث طفرة في خلايا المخ نفسها لأنك تكون بذلك قد كسرت القالب. وذلك القالب يجب أن يُكسَر الآن، وليس بعد أربعين سنة أو مئة.
فهل يمكن للبشر أن يتصفوا بالحيوية والطاقة على تحويل أنفسهم إلى كائنات إنسانية متحضرة، فلا يقتتلون؟
الرئيس: هل لنا أن نطرح أسئلة؟
ك: أجل، سيدي، اسألوا ما بدا لكم. يسرني ذلك!
الرئيس: الوقت متاح لنا لطرح بعض الأسئلة، والسيد كريشنامورتي تلطف بالموافقة على الإجابة عن أية أسئلة تطرحونها. حين تطرح سؤالاً الرجاء أن ترفع يدك لكي يتم توصيل الصوت. شكرًا.
سؤال: أنا أسأل سؤالاً يخص حاجتي إلى تعبير روحي أشعر أني متصل به. هل أنا مسموع؟ لا أظن ذلك. أشعر بإحساس بانعدام الصلة ما انفك يصلني. أتشوق إلى اتصال روحي، مع نفسي ومع غيري من الناس في هذه المجموعة، يهبنا إحساسًا بالتسامي. هذا ما أتشوق إلى اختباره في هذه المحاضرة: إحساسًا روحيًّا أرقى بالوحدة، بدلاً من التعبير الفكري.
ك: بادئ ذي بدء، لا أفهم كلمة "روحي". هل الأمر عاطفي، رومانسي، إيديولوجي، أو شيء ما مبهم في الجو، أم هو مواجهة الواقع، ما يجري الآن، في أنفسنا وفي العالم جميعًا؟ ذلك أنكم أنتم العالم، لستم منفصلين عن العالم. نحن أوجدنا هذا المجتمع، وبالتالي، نحن ذلك المجتمع. ومهما تكن الخبرات التي تحصل للمرء – ما يُسمَّى الخبرات الدينية والروحية – عليه أن يشكك في تلك الخبرات بالذات؛ على المرء أن يتحرى، أن يكون شكاكًا. أتساءل إنْ كنتم تدركون أن كلمة "شكِّية" – التحري، الاستقصاء – لا تلقى تأييدًا في العالم المسيحي، بينما هي في البوذية والهندوسية واحدة من الأمور الجوهرية: عليك أن تشكك في كل شيء، حتى تكتشف تلك الحقيقة أو تقع عليها؛ وهي ليست حقيقتك أو حقيقة أيٍّ آخر كان، بل الحقيقة.
وهذا الاستقصاء ليس "فكريًّا". فالفكر ليس إلا جزءًا وحسب من البنية الإنسانية الكلِّية. على المرء أن ينظر إلى العالم وإلى نفسه ككائن كلاني. والحقيقة ليست شيئًا قيد الاختبار. إذا سمحتَ لي أن أنوِّه، مَن هو المختبر في معزل عن الخبرة؟ أليس المختبر جزءًا من الاختبار؟ لولا ذلك لما استطاع أن يعرف أية خبرة حصلت له. إذن، المختبر هو الاختبار؛ المفكِّر هو الفكرة؛ الراصد، بمعناه النفساني، هو المرصود. لا فرق ثمة. وحيثما وُجِدَ فرق، فَصْل، هناك يتسلِّل النزاع. ومع إنهاء النزاع ثمة حرية – وإذ ذاك فقط يمكن للحقيقة أن تنوجد. وهذا كله ليس "فكريًّا"، كرمى لله! هذا شيء يحياه المرء، ويكتشفه.
سؤال: شددتَ كثيرًا على الاستقصاء والتشكيك. أتساءل إن كنت تستطيع أن تخبرني إنْ كان الإيمان يلعب دورًا في ذلك أيضًا.
ك: ما هو الإيمان؟ بماذا تؤمن؟ يؤمن أحدهم بتجربة ما، فيما يؤمن آخر بمعتقد ما، أو برمز، إلى ما هنالك. لماذا يؤمن الإنسان أصلاً؟ هل يؤمن من جراء الخوف، من جراء عدم اليقين، من جراء إحساس بعدم الأمان؟ حين تؤمن، كهندوسي مثلاً، برمز من الرموز، وتتمسك بذلك الإيمان، أو بذلك الرمز، إذ ذاك تكون في حرب مع بقية العالم. أما الاستقصاء في رفق، في تؤدة، التحري، التساؤل، فمنه عندئذٍ ينبثق الوضوح. ولا بدَّ من الوضوح لفهم ما هو أبدي.
سؤال: في الختام قلتَ إننا في حاجة إلى كَسْر قالب النزاع بين البشر. وسؤالي لك هو: هل ترى ذلك كشيء أشبه بالسياق التطوري سيحصل لا محالة؟ أم تَراه كشيء علينا جميعًا أن نكدَّ كدًّا شديدًا في سبيل تحقيقه؟ وثمة عبارة تجري على مثل هذا النحو: "في أوقات الظلام تبدأ العين ترى". ولماذا تراني أطرح عليك هذا؟ – لأن الأمر، بمعنى ما، إما سوف يحصل، وإما لن يحصل. ولكن كيف تَراه سيحصل في نظرك؟
ك: لا أفهم سؤالك تمامًا، سيدي.
س: طيب. أنت تتحدث عن كَسْر القالب: للإنسان قالب، للمخ قالب، وعلى هذا القالب أن يُكسَر لكي يحلَّ سلام في العالم.
ك: جزمًا.
س: فهل ترى كَسْرَ ذلك القالب كحركة فاعلة أم كتقدم طبيعي في تطور الإنسان؟
ك: أترانا، سيدي، تطوَّرنا أصلاً؟
س: أظننا نتطور تطورًا متواصلاً.
ك: إذن، فأنت تقبل التطور – التطور النفساني، إذ نحن لا نتكلم عن التطور البيولوجي أو التطور التقني – التطور النفساني. بعد مليون سنة، بعد خمسين ألف سنة، هل تغيرنا تغيرًا عميقًا؟ ألسنا بدائيين جدًّا، همجيين؟ إذن، فأنا أسال إن كنت ستدقق في إمكانية وجود تطور نفساني أصلاً. أنا أشكك في ذلك. شخصيًّا، في نظر المتكلم، لا وجود لتطور نفساني: هناك فقط إنهاء الأسى، الألم، الجزع، العزلة، اليأس، إلى آخر ما هنالك. لقد تعايش الإنسانُ وذلك طوال مليون سنة. وإذا اتكلنا على الزمن، وهو الفكر، – فالزمن والفكر متواكبان – إذا اتكلنا على التطور، إذ ذاك فإن ألف سنة أو أكثر سوف تمضي، وسنبقى على ما نحن عليه من همجية!
سؤال: سؤالي هو: ماذا يجب أن يحصل حتى يمكن للتطور النفساني، كما يفهمه المتكلم، أن يبدأ؟
ك: ماذا عن التطور النفساني؟ لا أفهم السؤال تمامًا.
س: قلتَ إنك لا تعتقد بأن تطورًا نفسانيًّا قد حصل. سؤالي هو: ماذا يمكن أن يحصل حتى يكون، حتى يمكن لتطور نفساني أن يحصل؟
ك: سيدتي، أخشى ألا نكون قد فهمنا واحدنا الآخر. لقد عشنا على هذه الأرض، كما نعلم من التاريخ، كما ومن التحري القديم، – عشنا على هذه الأرض مدة خمسين ألف سنة أو أكثر أو أقل. وإبان فترة التطور الطويلة تلك، ظللنا، نفسانيًّا، داخليًّا، ذاتيًّا، همجيين إلى هذا الحد أو ذاك – نكره بعضنا بعضًا، نقتل بعضنا بعضًا. والزمن، بما هو التطور، لن يحلَّ تلك المشكلة. فهل من الممكن، كما نسأل، لكل كائن إنساني، بما هو بقية العالم، – هل يمكن لتلك الحركة النفسانية أن تتوقف حتى نرى شيئًا جديدًا؟
سؤال: أردت أن أسألك السؤال نفسه في عبارة مختلفة: ماذا يجب علينا أن نفعل حتى نفعِّل هذه المقاومة حيال التطور؟ أود أن أقول شيئًا واحدًا آخر. كان الدكتور [ديڤيد] بوهم حاضرًا هنا في الشهر الماضي، وقال الشيء نفسه الذي تقوله أنت في عبارة أخرى؛ إنه عالِم، وقد شرح المشكلة نفسها. أتساءل عمَّا تظن أن في إمكاننا أن نفعله حالاً لكي نفعِّل هذا؟
ك: فهمت. ماذا يمكن لك أن تفعل حالاً؟ صحيح؟ تغيَّرْ تغيرًا تامًّا! – نفسانيًّا وخارجيًّا في آنٍ معًا. الثورة النفسانية أولاً – ليس التطور، بل الثورة – تغيَّرْ تمامًا. ذلك هو العمل الحقيقي للإنسانية، وليس محاولة التلهِّي عنه بأمور ثانوية.
سؤال: لقد قررتَ أن شرطًا هامًّا من شروط فهم البشرية هو البدء في فهم أنفسنا فهمًا واضحًا. هل تتوقع تحقُّق ذلك ضمن هذه الغرف، في غضون الأربعين سنة المقبلة، في الأمم المتحدة؟ – بحيث إن فهم البشرية، من خلال فهمنا أنفسَنا، سيصير جزءًا من صنع القرار على الصعيد العالمي.
ك: لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال لأنني لا أنتمي إلى المنظمة. اسأل الرؤساء!
س: أود أن أضيف نبرة أخرى – نبرة تشجيع أكبر ربما – إلى سؤالي. لقد أشرتَ إلى أن المنظمات قد لا تأتي بالجواب؛ وأشرتَ كذلك إلى أن تاريخ البشرية ينزع بك إلى التشاؤم حول المستقبل أو الخلاص. أعتقد أن الأمر يعتمد على طبيعة المنظمات وعلى ما إذا كانت هذه المنظمات تلبي مصالح البشرية وعلى استعدادها للتطور، كما تتطور الأمم المتحدة وسواها من الجماعات، وكما يتطور البشر – على افتراض أننا لن نبيد أنفسنا عن بكرة أبينا، وعلى افتراض أننا نستطيع أن نتواصل بواسطة ذلك التعاطف والاحترام المدوَّنين في جيناتنا أيضًا. لا نهاية لما قد نستطيع أن نفعله على هذا الكوكب وخارجه. والمعنى المتضمن هنا، الذي أعتنقه، هو أننا تطورنا لأن لدينا المقدرة على الحب وعلى التعاون، وأننا لسنا هالكين ميئوسًا منهم لمجرد أننا نُظهر الكره والخوف والجشع وأننا استسلمنا في الماضي لمثل هذه الشرور. لكن لدينا في وجود الأمم المتحدة، في حدِّ ذاته، مثالاً على مقدرة الإنسان على النمو وعلى اتخاذ أهداف مشتركة. أعتقد أن الحاضر لا يتضمن المستقبل وأننا نستطيع، بالعمل النشيط في الحاضر، أن نؤثر في مستقبلنا وفي نجاتنا. لذا أسأل: ما هو الجواب عن السؤال الذي طرحتَه حول أن المرء، حين يحقق السلام في نفسه، كيف سيؤثر على بقية البشرية، بالنظر إلى المهلة الزمنية المحدودة؟
ك: ما هو السؤال، سيدي؟
س: سؤالي كان: حين يحقق المرء السلام في نفسه، كيف سيؤثر ذلك في بقية البشرية من دون وجود بُنى تنظيمية؟
ك: لقد شرحتُ ذلك، سيدي، شرحتُه. قولك: إذا تغيرتُ، كيف سيؤثر ذلك في البشرية، في بقية العالم؟ أليس هذا هو السؤال، سيدي؟ على رسلك، سيدي.
س: أجل، هذا هو السؤال.
ك: أعتقد، إذا أجزتَ لي أن أنوِّه بكلِّ احترام، أن هذا السؤال سؤال خاطئ. تغيَّرْ، تَرَ ما يحدث. هذا شيء هام للغاية حقًّا. علينا أن ننحِّي جانبًا جميع القضايا الجانبية. أرجوك أن تدرك هول هذا الأمر: أنك أنت بقية الإنسانية – نفسانيًّا. أنت الإنسانية. فسواء كنت تعيش في الهند، روسيا، الصين، أو في أمريكا أو أوروبا، أنت بقية الإنسانية، لأنك تتألم، ولأن الجميع على هذه الأرض يتألم بطريقته الخاصة. نحن نتشارك في هذا الألم؛ إنه ليس ألمي أنا. إذن، فأنت، حين تطرح سؤال: أي فارق سينجم عن تغيري أو تغيرك، إذا أجزت لي أن أنوِّه بكلِّ تواضع، ينم سؤالك هذا عن خطأ جوهري. أنت تتجنب القضية المركزية. ويبدو أننا لا نواجه أبدًا القضية المركزية، التحدي المركزي الذي يتطلب منا أن نحيا حياة مختلفة تمامًا، ليس كأمريكيين، روسيين، هنود، بوذيين، أو مسيحيين.
أتساءل فيما إذا كنتم تدركون أن المسيحيين كانوا مسئولين عن قتل بشر أكثر من أية ملة دينية أخرى بكثير. لا تغضبوا، أرجوكم! ثم جاء الإسلام، العالم الإسلامي؛ ثم الهندوس والبوذيون جاؤوا بعد ذلك بكثير. إذن، إذا قال المسيحيون المزعومون، بمَن فيهم الكاثوليك، – وهم حوالى ثمانمائة مليون إنسان، – إذا قال هؤلاء: "كفانا حروبًا"، سيكون لكم السلام على هذه الأرض. لكنهم لن يقولوا ذلك. وحدهما البوذية والهندوسية قالتا: "لا تقتل، لأنك إنْ قتلت – وهم يؤمنون بالتقمص – سوف تدفع الثمن في العمر التالي". لذلك لا تقتل، لا تقتل أقل الأشياء ضآلة، باستثناء ما يجب عليك أن تتغذى به من خضار وما إليها، لكنْ لا تقتل. نحن، كبراهمة، لم ننشأ على هذا النحو، على ألا نقتل ذبابة، ألا نقتل الحيوانات لنقتات بها. لكن هذا كله مضى. لذا، أرجوكم، نحن ننوِّه بأن القضية المركزية لإيقاف الحروب هي أنك يجب أن تضع حدًّا لصراعاتك أنت، لنزاعاتك أنت، لبؤسك وألمك أنت.
لماذا نختار؟ – باستثناء الأشياء المادية – بين قماشين جيدين، ملبَسين، بين سيارتين. أنت تختار عندئذٍ بسبب وظيفة هذه الأشياء، سرعتها، إلى ما هنالك. لكنْ نفسانيًّا، لماذا تختار أصلاً؟ لماذا يوجد هذا الخيار؟ هناك خيار طبعًا: تستطيع أن تنتقل من بلدة إلى أخرى، من عمل إلى آخر – ليس في روسيا، ليس في العالم الاستبدادي؛ ففي العالم التوتاليتاري أنت عالق في مكانك، لا يُسمَح لك بالتنقل إلا بموافقة رؤسائك[2]. وفي هذه البلاد، في مجتمع ديمقراطي مزعوم، لديك خيار في أن تفعل كلَّ ما يحلو لك – وأن تسمي ذلك حرية – أن تُشبع رغباتك، أن تصيب نجاحًا عظيمًا. لديك في ذلك خيارات لا تحصى! لكننا نتكلم على الخيار في المجال النفساني. إذا كنت ترى الأشياء رؤية واضحة جدًّا ينعدم الخيار. ومن سوء الحظ أننا لا نرى الأشياء رؤية واضحة. لا نرى في وضوح أن القومية أحد أسباب الحرب؛ لا نرى في وضوح أن الإيديولوجيات تنسل الحروب، سواء كانت الإيديولوجيات الماركسية، أو لينين، أو لونك الإيديولوجي الخاص. إذن فنحن نختار بين إيديولوجيا وأخرى، بين دين وآخر، بين مجموعة وأخرى – ونتوهم أننا أحرار! هذا، على العكس، يشي بالتشوش. وحين نكون مشوَّشين نتصرف تصرفات مشوَّشة، وبالتالي، نضاعف التشويش، كما يفعل السياسيون – سامحوني!
سؤال: لدينا هنا سؤال مكتوب للسيد كريشنامورتي: هل تؤمن بما يسمَّى الروح المتحققة؟
ك: هل تؤمن بما يُسمَّى أرواحًا متحققة؟ لا أعرف ماذا يعني ذلك. تمهَّل، سيدي.
سؤال: أنا آسف. أنت الآن تتكلم من على منبر عام، وحالما تنتهي هذه المحاضرة سوف تعود ربما إلى خلوة لعلها عزيزة جدًّا عليك. إذن، هناك عند الغالبية من الكائنات البشرية في هذا العالم فَصْلٌ بين الحياة العامة والحياة الخاصة. هل لك أن تعلِّق على هذا التقسيم؟ هل تشعر بأنه يقود إلى النزاع؟ هل هو ضروري؟
ك: بين الحياة العامة والحياة الخاصة؟ هل هذا هو السؤال؟ لماذا تفصل بينهما؟ لماذا نفصل بين الحياة العامة، وكأنها شيء ما في الخارج، وبين الحياة الخاصة؟ لو كان المرء يحيا حياة صحيحة، منضبطة، ليس فكريًّا، بل كلانيًّا، إذ ذاك لا تعود ثمة حياة خارجية وحياة خاصة. كلانيًّا، يعني أن تحيا ككائن إنساني كلي، ليس كطائفي، ليس كفرد، ليس كذهن، أو دماغ، ضئيل وضيع، يتصرف لمصلحتنا الذاتية. آسف إذا كنتُ بهذا الإلحاح. هل انتهينا، سيدي؟
الرئيس: هناك سؤالان آخران.
سؤال: إذا كنت تعيش في سلام، واتفق للطاغية أن يهجم، ألا تدافع؟
ك: ماذا ستفعل عند ذاك؟ إذا كنت تعيش في سلام وهاجمك طاغية أو لص، ماذا ستفعل؟ هذا هو السؤال. هل تحيا في سلام ليوم أو يومين فحسب، أم تحيا حياتك كلها في سلام؟ لو أنك عشت في سلام لسنوات عديدة، إذ ذاك سوف تتصرف التصرف السليم حين تُهاجَم.
أيها السادة، لقد دأب المتكلم على هذا الكلام طوال الستين سنة الأخيرة، وأكثر – في العالم أجمع، باستثناء ما وراء الستار الحديدي؛ فقبل الحرب كان يطوف أوروبا كلها – وهذه الأسئلة طُرِحَتْ على المتكلم طوال ستين عامًا. النموذج نفسه بات يكرِّره الجيلُ الشاب، تكرِّره مدنيةٌ فتية، مثل أمريكا؛ الأسئلة نفسها، بالنية نفسها: الإيقاع بالمتكلم، أو فهم المتكلم حقًّا، أو فهم أنفسهم. فلو أنك حظيت بسوء حظ – أو حسن حظ – الكلام طوال ستين سنة فستعرف الإجابات كلها والأسئلة كلها. ليس هناك فارق بين السؤال والجواب: إذا فهمتَ السؤال فهمًا عميقًا حقًّا لأدركتَ أن الجواب كامن في السؤال.
الرئيس: السيد روبرت ميللر يود أن يطرح سؤالاً.
روبرت ميللر: طيب، لا أود أن أطرح سؤالاً، بل أن أهنئك على تصريحك، وأن أؤكد أنني، وقد عايشت هذه المنظمة ما يناهز الأربعين عامًا وبلغت من العمر أكثر من ستين عامًا، توصلت إلى النتيجة نفسها التي توصلت إليها أنت. نحن جميعًا مبرمَجون: نُبرمَج على أمَّة، على إيديولوجيا، على دين – وجميع هؤلاء كائنات بشرية متشظِّية. استغرقني الأمرُ أربعين سنة من الإقامة في هذا البيت لكي أبطِلَ برمجتي على الجنسيتين الاثنتين أو الثلاث التي فُرضَتْ علي؛ وفي كلِّ مرة كنت أحصل كذلك على سلاح لكي أطلق في الاتجاه الآخر! وهاهنا، بعد أن قُدِّرَ لي أن أرى العالم في كلِّيته وأرى الإنسانية في كلِّيتها، استخلصت أن الأهم هو أن تكون إنسانًا من أن تكون يهوديًّا أو كاثوليكيًّا أو فرنسيًّا أو روسيًّا أو أبيض أو أسود.
ك: صحيح تمامًا.
ر م: وفي معتقدي أنه محرَّم عليَّ أن أقتل مهما كان السبب، لا في سبيل أمَّة، ولا في سبيل دين، ولا في سبيل إيديولوجيا. وهذه هي الخلاصة التي هي خلاصتك أنت أيضًا.
ك: هل هي خلاصة، سيدي، أم أنها واقع؟
ر م: هذا هو واقعي.
ك: هذا صحيح! ليست خلاصة.
ر م: لن أحاجج حول الأديان، بل سأذكِّر بأن "عينٌ بعين وسنٌّ بسن" ليست بالضبط وصية مسيحية. المسيح، على العكس، رأى أن الطريقة السلامية هي الاهتمام برفاقك البشر، واتصافنا بالرحمة والمحبة تجاه بعضنا بعضًا. لكني أود أن أعرف كيفية كَسْر قالب المواجهة هذا بين البشر. لا أتكلم على الدول، لأن الدول تتشكل من البشر، والحكومات أيضًا؛ فالبشر هم الذين يحكمون البلدان. كيف يمكن لنا أن نحطم هذا القالب؟ كيف لم تتمكن الإنسانية من ممارسة مبادئ بهذا الوهج كالتي كرز بها المسيح من أجلنا، ونصَّتْ عليها جميعُ الأديان أيضًا؟ أود فعلاً أن أتبين فيما إذا كنا نستطيع أن نجد صيغة أو حلاً لكَسْر قالب المواجهة والكره الرهيب ذاك، حتى بين الأسَر، كما نوَّه بذلك كريشنامورتي، لأن الأمر ليس مجرد حرب بين أمم وحسب. ثمة دومًا مواجهة، حتى بين الأطفال: ترى أحدهم مع ماما، فيما الآخر يريد أن يكون هو معها. ذلك القالب، كيف نكسره؟
ك: هل لي أن أجيب عن سؤالك؟ نحن مبرمَجون، كالكمپيوترات – نحن كاثوليك، پروتستانت، بوذيون، إلخ. فكما نوَّه السيد (؟)، نحن مبرمَجون. هل ندرك أو نرى فعليًّا، فعليًّا، وليس نظريًّا أو إيديولوجيًّا – هل نرى فعليًّا أننا مبرمَجون؟ أم أنه ليس إلا تصريحًا عَرَضيًّا؟ إذا رأيت أنك فعليًّا مبرمَج، هل تدرك عواقب كونك مبرمَجًا؟ واحدة من هذه العواقب كانت الكراهية، أو الحرب، أو فَصْلَ نفسك عن الآخرين. إذا أدرك المرء أنه مبرمَج، مضغوط، يُكال له الوعظ، وإذا رأى المرء ذلك حقًّا، فإنه يتخلَّى عنه وحسب، ولا يحتاج إلى "صيغة" له. حالما تشكِّل صيغةً فإنك تقع في شِراكها؛ وإذ ذاك فإنك تصير مبرمَجًا من جديد لأنك تملك برنامجك الخاص وذاك الآخر يعطيك برنامجًا آخر. المهم، إذن، هو إدراك واقع أنك مبرمَج، ليس فكريًّا، بل بدمك وطاقتك جميعًا.
الرئيس: بسبب ضيق الوقت، لن نتمكن من طرح المزيد من الأسئلة. بالنيابة عن "جمعية السلام في الأرض" وعن "الحركة من أجل عالم أفضل"، نود أن نشكر ضيفنا المحاضر الموقر والأخ الزميل والسفير باري، وهما الرئيسان الفخريان للجمعية، ونشكركم جميعًا على تجشمكم مشقة المجيء لحضور محاضرة اليوم.
يبقى عليَّ أن أؤدي مراسيم بسيطة جدًّا قبل أن تغادروا. كان السيد كريشنامورتي هنا في العام الماضي في 17 نيسان، حوالى الوقت الذي احتفلنا فيه بيوم "السلام في الأرض". وهذا العام حبانا حسنُ الطالع أن نستقبله بمناسبة الذكرى الثانية والعشرين لـ"السلام في الأرض" – وقد سبق لكم أن سمعتم بالأمر. بالنيابة عن "جمعية السلام في الأرض" في الأمم المتحدة، نتشرف بتقليدك، سيد كريشنامورتي، أيها المعلِّم العالمي، وسامَ الأمم المتحدة للسلام للعام 1984.
المترجم عن الإنكليزية: ديمتري أڤييرينوس
[1] باللاتينية في الخطاب pacem in terris: إشارة إلى تسبيح الملائكة مبشِّرين الرعاةَ بميلاد المسيح: "المجد لله في العلى، والسلام في الأرض للناس أهل رضاه" (إنجيل لوقا 2: 14)؛ وقد تسمَّتْ إحدى الجمعيات المنبثقة عن الأمم المتحدة بهذه العبارة. (المحرِّر)
[2] ألقى كريشنامورتي هذا الخطاب قبل انهيار جدار برلين وسقوط المنظومة الاشتراكية. (المحرِّر)