ضياء
ديمتري أڤييرينوس
تعلَّمتُ مؤخرًا أن أتخفَّف ممَّا كان يبدو لي، للوهلة الأولى، جوهريًّا – لكنه، لدى إمعان النظر، مجرَّد شطحات ذهنية شاردة للتهرُّب مما يستصرخ انتباهي، لتفادي النظر إلى ما يتطلب الرعاية في نفسي –، لكي أجالس ألمي وأصغي إليه.
مَثل ذلك كمَثل الفارق بين شوقنا إلى رؤية ضياء الشمس في آخر النفق وبين إحجامنا عن السير وسط العتمة: نخطو بضع خطوات قُدُمًا، فما نلبث أن نتقهقر إلى الضوء الشاحب المملِّ في هذا الطرف من النفق. تبدو لنا الحياة الباهتة أكثر ألفة وأمانًا، فلا نجرؤ على اقتحام مغامرة الظلام، شاعرين أن الألم الممضَّ الذي نكابده لا يستحق العناء. أو لعلنا نركن إلى مفهوم زائف عن بهجة لا تخبو وسعادة لا يكدِّرها غمٌّ. ألعلَّ ثمة مكانًا كهذا على الأرض؟ لست أدري…
وهكذا، بعد كثير من المراوحة، أحزم أمري وأنصت إلى ما يبدو أنه صوت قلبي، مؤجِّلاً مشروع السفر إلى بلاد الفرح الذي ما فتئ يغريني. تتخابط في الذهن بضعة أسباب للإقدام وألف سبب وسبب للإحجام. أنحِّيها كلَّها! يرتفع عن بصيرتي شيء. شيء أشبه بالحجاب. أسترخي وأشعر بخفة لم أعهدها من قبل.
وفجأةً، على غير توقُّع، ينفتح فضاء، فضاءٌ شاسع… في روزنامتي، في ذهني، في قلبي، في الحياة التي أتنفَّسها! تتسع في قلبي مساحةٌ للسكينة، للبركة. أستطيع الآن الاهتمام بما أهملتُه طوال سنين بسبب إلحاح رغبة بي إلى تحصيل معرفة ما، تحقيق إنجاز ما، حاجة إلى إحداث فرق ما في مجتمعي، إغراء اكتساب الخبرة… البحث، البحث، البحث الدائب الذي لا يكلُّ ولا يملُّ والذي حال بيني وبين رؤية أن ما كنت أبحث عنه موجود على مقربة مني، هاهنا، حيث أقف بالضبط!
ولكن – حمدًا للآلهة! – في خضمِّ تلك المطاردة المضنية كان هناك شيء – ولأسمِّه الوعي – يراقب الجنون، حتى حين يُحْكِمُ قبضتَه على الذهن والشعور. ولقد انفضح فيَّ حين لم أذعن للرغبة في إدانة جنوني – وإلا لوجدتُني لا أزال أتأرجح بين رغبتي القاهرة في شيء وعزوفي المقهور عن سواه. كيف يمكن لذهنٍ لا يني يتراكض بين الرغبة في والرغبة عن أن يلمح جمال ما هو موجود أصلاً؟!
عندما ينفضح الجنونُ تراه يذوب في ضياء الشمس. شيئًا فشيئًا حينًا وعلى حين غرة حينًا آخر.
وها أنا ذا أقف في غمرة الضياء…
2005/11/25